الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 12 الأسرار ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

من عالم الأسرار

الأســرار

قصة محمود البدوى


سافر الدكتور حمدى زميل الدراسة بعد تخرجه من كلية الطب إلى لندن وعمل هناك فى مستشفياتها سنين طويلة .. ولما رجع إلى مصر كانت أزمة المساكن قد استحكمت فى القاهرة .. فوقع فى حيرة شديدة إذ لابد أن يفتح عيادة ويزاول عمله كطبيب أو يعود إلى الخارج كما كان ..

وبعد بحث طويل ومشقة وجد من دله على عيادة فى شارع الفلكى لطبيب يهم بمغادرة القاهرة .

وانتقل إليها شاكرا الله على نعمه إذ وفقه إلى المكان القريب من ميدان الأزهار حيث توجد عيادات معظم الأطباء وحيث تحققت الرغبة الدفينة منذ الصبا بالعمل فى هذا الموقع ..

واستقر الدكتور حمدى فى مكانه وسارت أموره كطبيب على أحسن الوجوه .

وكان الدكتور حمدى مع تفرغه للطب .. يعشق التنويم والايحاء .. ويقرأ كل الكتب القديمة والحديثة التى تصدر فى هذا الباب .. ويزاوله كهواية متمكنة من النفس .

ولهذا خصص لجلسة التنويم غرفة خاصة فى عيادته مجاورة لغرفة الكشف .. يزاول فيها عمله فى يوم الجمعة فقط ولايحضرها إلا أخص أصدقائه .

وكان عنده تمرجى أسمه " خليل " وهو فى الوقت نفسه فراش وخادم يقوم له بكل الأعمال .

وكان هذا التمرجى .. ربعه فى الرجال وثيق التركيب حاد النظرة سمين الوجه أحمره .. يرتدى مريلة التمرجى البيضاء .. ولا يخلعها فى صيف ولا شتاء ..

وكان يعرف أصدقاء الطبيب جميعا من غير المرضى ويعرفهم بكل صفاتهم .

ومع كثرة ترددى على العيادة ، ولكنى كنت أخاف من جوها إذا لم أجد الدكتور إو المرضى .. ووجدت التمرجى وحده ..

كان يصنع لى القهوة ، ويستقبلنى بحفاوة وأدب ، ولكن مشيته وصمته كانا يخيفانى .

وكنت أرى الغرفة التى يستعملها الدكتور فى يوم الجمعة للتنويم مغلقة وعلى بابها ستارة كثيفة دكناء .. وكان فى هذه الغرفة علم الدكتور وأسراره .

وذات مساء .. دخلت العيادة وكان بابها مفتوحا .. فلم أجد التمرجى جالسا فى المدخل ، ولا فى المطبخ كعادته عندما يكون الدكتور فى الخارج .. فرجعت إلى الباب الخارجى وضغطت على الجرس لأنبهه .. ولكنى لم أسمع وقع خطواته الثقيلة استجابة للجرس ، فجلست على أول كرسى فى المدخل وأنا أدير بصرى فى كل الأبواب المغلقة .. ومرت دقائق وأنا أحس بانقباض ضاغط وبرهبة شديدة .. وأن شيئا سيقع .. أو وقع بالفعل ..

وبعد دقائق رهيبة من الفزع والسكون ، دخل " خليل " فى خطوه الثقيل وحيا ..

وقال يبرر غيابه :
ـ كنت عند الدكتور " فاضل " أصلح له جهاز الأشعة .. فأرجو المعذرة ..
وأضاف :
سأعمل لحضرتك قهوة سريعا .. والدكتور سيأتى حالا ..

وسريعا حمل قهوة تركية على صينية نظيفة .. وكان أحسن من يضع الفنجان وبجانبه كوب الماء المثلج .

وكنت إذا تطلعت إليه أرى رأسه دائما منحنيا .. كان يخصنى بأدب جم .. ويعرف مقدار العلاقة الوثيقة التى بينى وبين الدكتور حمدى .. ويلمس ذلك كلما بعثه الدكتور فى طلبى لأى عارض أو ألم نزل به فجأة ..

ولهذه العلاقة كان " خليل " يخصنى بالجلوس فى مكتب الدكتور حمدى عندما يكون هذا فى عمل بالخارج .

وكان مكتبه عامرا بالكتب الطبية والعلمية ، ويعنى عناية خاصة بكتب التنويم .. وقد تمكنت منه هذه الهواية ، وكنت أسمع الكثير مما يقوم به ويعمله فى الغرفة المخصصة لذلك .. كانت أعمالا محيرة للعقل وخارقة ..

ولم أكن أحضر هذه الجلسات بصفة منتظمة لظروف عملى .. ولأنى كنت ألاقى الدكتور فى نفس اليوم فى المساء فى مطعم كنا نتعشى فيه كل يوم جمعة .

ومع براعة الدكتور فى التنويم ، ولكنى لم أكن أؤمن بهذه العملية إيمانا مطلقا .. وكنت أرتعش من مجرد تصور أن الوسيط قد لايصحو .. من نومه .. وينام نومة الأبد وما ذنب الفتـاة المسكينة .. وكانت وديعـة ورقيقة المشاعر للغاية .

وكنت كلما رأيتها أشفق عليها وأقول لحمدى :
ـ يا أخى .. أختر أحدا غيرها .. انها مسكينة وتعبت ..
ـ لايصلح غيرها .. أتعتقد أن المسألة سهلة .. الوسيط له خصائص معينة .. وقد اجتمعت كلها فيها ..
ـ نوم " خليل " .
وضحك وقال :
ـ خليل .. ينومنا جميعا .. !

***

والواقع أن " خليل " يستطيع أن ينومنا جميعا كما قال عنه الدكتور حمدى .. لأنه يتمتع بارادة قوية ونظرات نافذة فيها التسلط والجبروت .. وبهذه النظرات يستطيع أن ينوم من يشاء .. ولهذه النظرات النارية ولارتباطه الوثيق بغرفة التنويم ، كنت أخافه ، فهو يعرف كل أسرارها .

ولقد وجدته ذات ظهر فى العيادة ، وكان فى حديث حاد مع رجل يحمل حقيبة مكتظة بالأوراق .. وكان الرجل خارجا وأنا داخل .. و " خليل " لاتزال بيده الورقة التى تسلمها من الرجل الذى أدركت أنه المحضر .. لأنى كنت أعرف أن هناك قضايا بين الدكتور وصاحب العمارة بسبب الشقة لأن " حمدى " أجرها من الباطن .. وصاحب البيت يسعى إلى طرده ..

وأعطانى " خليل " الورقة المكتوبة بالكوبيا الباهتة وبالخط الردىء الذى لايقرأ وهو يقول ..
ـ أنظر سيادتك إلى تاريخ الجلسة 19 نوفمبر .. أو 29 الخط غير واضح ..
فتناولت منه الورقة وقلت له :
ـ أنها .. 29 نوفمبر .. على الأرجح .
ـ إن شاء الله لن يكون هناك 19 ولا 29 وسيستريح الدكتور من كل هذا العذاب نهائيا .

ـ لماذا لاتتفقون معه ..

ـ نتفق مع من يا أستاذ رأفت .. الدكتور المهذب الجنتلمان الذى عاش فى بلاد الإنجليز يتفق مع وحش .. شيطان من شياطين الانس .. له ثلاث سنوات يعذبنا .. مرة يعلن الدكتور فى طنطا .. ومرة فى الاسكندرية .. ومرة يدعى أننا لم ندفع الإيجار ، أساليب كلها شيطانية ملتوية .

ـ أعرف كل هذا .. ولقد حدثنى الدكتور حمدى عن الكثير .. وكان مـن الواجـب أن يعمـل العقد فى اليوم الأول من سكنه ..

ـ لم يقبل يا أستاذ .. وحاول الدكتور بكل الوسائل ولكنه رفض لأنه جشع يجمع المال بكل الوسائل .. اشترى هذه العمارة فى أيام الرخص بتسعة آلاف جنيه .. وفيها الآن أربع شقق مفروشة تغل له أكثر من هذا المبلغ .. ومع هذا الاستـغلال البشـع لايحمـد ربنا ويريد أم يؤجر شقتنا مفروشة ..

ـ كلهم أصبح هذا الرجل ..
ـ العالم انقلب إلى وحوش .. والإنسان المهذب الذى يعيش بالقيم .. يستضعفه الأنذال .. الدكتور حمدى لم يرفع أجر الكشف كغيره .. ولايزال أجره جنيها وغيره يأخذ عشرة .. وليس لهم صفاته فى العلم .. ولكنهم أصحاب دعاية .. ويأتى إليهم الفلاحون من الريف مساقون وعيونهم معصوبة لايعرفون الجيد من الردىء ولا الطالح من الصالح .. ويتلذذون من الاستغلال ..

ـ ولكـن مـا ذنبهـم إذا لـم يكن هناك من يدلهم على الطريق ..

ـ انهم لايهتدون أبد مهما تحاول معهم .. الدكتور فاضل جارنا كشفه بجنيه وهو رجل صالح وعالم وعنده كل الأجهزة الحديثة .. للأشعة والتحاليل وغيرها ويكشف بأمانة وحرص ومع ذلك يتركونه ويذهبون إلى غيره ويدفعون خمسة جنيهات وعشرة .. جهالة عمياء ..

والدكتور فاضل هذا عندما يذهب إليه صاحب البيت الملعون كمريض ، مع جشعه وكل صفاته ، لايأخذ منه مليما .. ويحاول اقناعه بأن يتصالح مع الدكتور حمدى ولاداعى للقضايا .. لأنها لاتوصل لنتيجة .. ولكنه لايسمع كلامه ..

شرير يا أستاذ مسلح بكل أنواع الشر ولا يفكر إلا فى الفلوس .. كيف يتصالح مع رجل مهذب ضعيف مجرد من كل سلاح ..

يوميا فى كل صباح يلقى علينا الزبالة متعمدا .. من شرفته .. انه يسكن فوقنا .. وأزيل كل شىء واصبر ..

ومرة .. كان فى حالة موت .. عنده سكر شديد وربو وطلبه لاعطائه حقنة .. ولم يكن فى العمارة من الأطباء سوانا .. فأعطيته الحقنة .. ومد لى يده بعشرة قروش .. فرددتها له .. وقلت له عيب يامعلم .. داحنا جيران ..

***

واطلع الدكتور حمدى على الإعلان الأخير الذى أرسله إليه صاحب البيت وتضايق منه جدا .. وقال لى بهدوء :

ـ انه يتصور نفسه هرقلا .. ويستضعفتى .. من دون السكان وهذا ما يفجر غيظى .. ولقد استقر رأيى على التخلص منه نهائيا .. لقد طفح الكيل وليس هناك زيادة لمستزيد ..
ـ كيف ..؟
ـ سأسلط عليه الوسيط ..
وضحكنا ..

***

واتجهت إلى العيادة ذات مساء .. فرأيت صوان جنازة فى نفس الشارع .. فاضطربت وحسبت أن مكروها أصاب الدكتور حمدى وأنا لاأدرى ..

ولكن لما دخلت العيادة .. وجدت خليل التمرجى .. فى مجلسه .. وكان أكثر الناس هدوءا .. فاطمأنيت ..
وسألته عن الدكتور ..
فقال :
ـ تفضل .. هوا جوا ..

ولما دخلت عليه عانقنى .. وقال .. بفرحة :
ـ ربنا خلصنا من المعلم ..
ـ من ..؟
ـ صاحب البيت .. مات ليلى أمس ..

وسألته مازحا ..
ـ أسلطت عليه الوسيط ..؟
ـ يا راجل حرام .. أنا كنت أضحك ..
وكان فرحا ونشطا .. ويحس بأن كابوسا ثقيلا رفع عن كاهله ..

وفكرت هل يفرح الانسان لموت إنسان آخر .. هل يحدث هذا فى الحياة منذ وجدت الخليقة .. أم يحدث فقط فى هذه الأيام بسبب أزمة المساكن ! !

***

وكان وجه التمرجى يروعنى .. فمنذ مات الرجل وهو على حالة من السكون .

وفكرت هل تخلص منه بحقنة قاتلة أو بغيرها من الوسائل .. لما يلقيه عليه من الزبالة من فوق ، وفعل ذلك لأنه أكثر الناس تضررا منه ..

وهل فعل ذلك وحده وبدافع من نفسه أم بتحريض ودفع من الطبيب .. وهل يفكر الرجل المتعلم المثقف فى الجريمة كما يفكر كل الناس ..

وما جدوى العلم والثقافة إذا كنا نتساوى فى الانفعالات والسقطات والثورات الجامحة وتنقلب إلى وحوش .. ولا فرق بيـن إنسـان وإنسـان إذا تملكه الغضب وأفلت منه الزمام ..

ظلت هذه الأسئلة تدور فى رأسى أياما .. ثم صرفتنى شئون الحياة عنها إذ سافرت إلى الإسكندرية فى مهمة عاجلة .. ولما عدت إلى القاهرة وذهبت إلى العيادة كعادتى فى مساء الخميس وجدت الدكتور قد بكر فى الحضور عن ميعاده المسائى ..
والمرضى على غير المألوف وأكثر من المعتاد ..

وكان خليل .. فى مكانه من المدخل .. يدخل الزبائن حسب أرقامهم .. ويخطو فى الردهة .. بخطوه الثقيل المألوف .. ومرتديا نفس المريلة ..

وبعد أن انصرف المرضى .. وجلست مع حمدى نتحدث وتأملت وجهه البرىء وروحه الصافية ، استبعدته تماما من الأمر فانه لايمكن لمثل هذا الانسان أن يفكر فى الجريمة على أى وجه من الوجوه .. مهما أوذى وأصيب من ضرر .
وتعشينا سويا .. وافترقنا على لقاء فى الغد لأحضر جلسة التنويم .

***

وحضرت الجلسة .. فى الميعاد .. كما حضر الأستاذ رمزى صديق الدكتور الذى وقع فى بيته حادث سرقة ..

ودخلنا الغرفة المسدلة الستائر .. وشعرت بالظلام ورهبة المكان ..

وبدأ الدكتور ينوم الوسيط .. وكانت النقود قد سرقت من دولاب فى غرفة النوم .. فأوضح الوسيط صفات السارق بدقة .. طوله وعرضه وسنه وملامح وجهه وما كان يرتديه من ملابس وقت الحادث . فعرف الأستاذ رمزى أنه قريب له فاشل وعاطل .. وكان قد شك فيه من قبل ولكنه استبعده لصلته القريبة ..

وقال الدكتور حمدى موجها الخطاب لى :
ـ والآن جاء دورك :
وارتعشت وقلت له على الفور لأقطع عليه السبيل :
ـ ليس عندى مشكلة .. وما سرقنى أحد ..

فقال الدكتور :
ـ انها مجرد نزهة فى بيتك من زمان لم نزره ..
هيا يا مديحة ..
ـ اتجعل مديحة تتلصص فى بيتى .. لا ..
ـ يا راجل لاتفكر هكذا .. انها زيارة ممتعة ..
وتركته يفعل ما يشاء

وبعد دقائق قليلة .. نامت مديحة .. وانطلقت إلى بيتى فى شارع حسن الأكبر بعابدين وقال لها حمدى ..
ـ صفى له الشقة ..
فوصفتها فى دقة غريبة ..
ـ طيب .. هل يوجد أحد .. الأستاذ رأفت معانا الآن ..
ـ يوجد ضيوف .. جالسين فى الصالة ..
ـ صفيهم ..
ـ سيدة مسنة .. وشابة .. ومعهما رجل أفندى طويل ..
فارتعشت ..
ـ صفى السيدة المسنة ..
ـ انها بيضاء .. قصيرة .. تلبس السواد .. ملثمة بطرحة .. وعلى خدها الأيسر غمازة .
وقال حمدى :
ـ انها والدتك ..
ـ والدتى جاءت من المنصورة .. الساعة .. من غير اخطار ..
ـ أجل .. وان كنت غير مصدق .. اتصل بها بالتليفون ..
ورد علىّ عبده الخادم ..
فسألته باضطراب :
ـ هل عندك ضيوف .. ؟
ـ أجل يا أستاذ .. الست الوالدة .. وأخت حضرتك وجوزها ..
ـ متى حضروا .. ؟
ـ منذ ساعة ..

وتصورت أن الدكتور أراد المزاح واتصل بالخادم واتفق معه على هذا الرد .
فقلت له لأزيح عن نفسى كل شك .
ـ طيب خلى والدتى تكلمنى ..

ولما سمعت صوتها حقا ، سقطت السماعة من يدى ، وأصابنى الاغماء !

***

ولما فتحت عينى وجدتنى ممددا على كنبة الكشف والدكتور حمدى بجانبى ، وقد أمر خليل بأن يعد لى حقنة مقوية ..

ولما جاء خليل بالحقنة .. كان الدكتور قد خرج من الغرفة لبعض شأنه ..
فقلت لخليل وعلى فمى ابتسامة :
ـ أوعى تكون الحقنة مثل الحقنة التى أعطيتها للمعلم مرسى ..

فرد فى هدوء :
ـ ومن قال لك يا أسـتاذ رأفـت .. أننى أعطيت المعلم حقنة .. ؟
ـ سمعت ..
ـ أنا لم أعطه حقنا على الاطلاق .. ولقد وجدته وحده فى بسطة الدور الثالث .. وكان المصعد معطلا والنور مقطوعا .. وقبل أن المسه كان قد لفظ أنفاسه ..

ـ هل ضرب ..؟
ـ أجل ضرب فى مقتل بطريقة فذة .. طريقة ليس لها نظير .. وأعظم عالم فى التشريح لايجد لها أثرا عضويا يمسك منه خيط الجريمة ..
ـ ومن الذى فعل هذا .. ؟
ـ لا أدرى ..
ـ هل له أعداء ..
ـ سكان القاهرة جميعا .. أعداؤه ..

وسمعت خطوات الدكتور حمدى فى داخل الغرفة فقطعت حبل الحديث .. وأنا فى حيرة ورحت أتذكر خليل وهو يقول لى منذ أسابيع .. لن يكون هناك 19 ولا 29 نوفمبر .. والرجل أنتهى .. فعلا قبل هذا الموعد ..
=================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة المصرية عدد يناير 1979 وأعيد نشرها بمجموعة " صورة فى الجدار " لمحمود البدوى 1980
================================




ليست هناك تعليقات: