الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 13 الظرف المغلق ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الظرف المغلق
قصة محمود البدوى


ركبت " المترو " من المحطة النهائية ، عندما كانت هناك فى الكورنيش ، وكانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء والزحام على أشده .. والجو رغم دخول الليل ، بادى الحرارة ..

وكان يجلس أمامى على المقعد المقابل مراهقان تبادلا السجائر بمجرد جلوسهما ، وأخذا ينفثان الدخان فى وجهى باستهتار وميوعة .. وبجوارى من ناحية الشباك ، رجل سمين الوجه ، قصير العنق ، أسمر .. شغل نفسه بالحاجات التى يحملها ، فقد كنا فى بداية الشهر .. وكان معظم الواقفين يحملون فى أيديهم أشياء .. الرجال .. والنساء .. وكانت الممرات مكتظة عن آخرها ، والأنفاس مخنوقة فى الحر الشديد ، والزحام بلغ الذروة ..

والجو كله ، لوقفة المترو التى طالت ، يوحى بالكآبة والضجر ..
وأخيرا تحرك المترو .. وفى محطات .. الاسعاف .. وبنك الدم .. والمحطة .. وكوبرى الليمون .. ركب ركاب جدد .. رجال ونساء بكثرة متزايدة ، وكانت تقف بجوارى فى الطرقة سيدة حشرت نفسها بين الواقفين حشرا .. ونظرت إلى وجهها ، وأشفقت عليها .. كانت على حالة شديدة من الاعياء والضيق والحيرة .. ولكن هذا كله لم يخف نضارة وجهها .. ودفعها راكب فسقط ما تحمله على أرض العربة .. فالتقطه لها ورفعته إليها .. وفى عزمى أن أعيده إلى يدها .. ولكن نظرة منها فى وقفتها التعيسة جعلتنى أبقيه فى يدى ، رغم أنى اعتدت ألا أتناول أشياء من يد السيدات قط فى مثل هذه الحالات ..

ووجدتها بعد محطة أخرى ، وهى لاتكاد تتماسك فى وقفتها تلقى فى راحتى حقيبة اليد دون تبادل أية كلمة .. وقد أضطرت إلى هذا .. عندما انطلق المترو وأصبح يهتز .. وأصبح من العسير عليها الوقوف دون أن تقبض بيدها الخالية على المقابض التى فى أعلى الكرسى ..

وعلى التو أخذت أسائل نفسى لماذا وضعت فىّ هذه الثقة دون سائر الركاب ..؟ وأتانى الجواب سريعا ، لأنى أقرب راكب إليها والصقهم بها .. وفى مظهرى الوقار الذى لاتنفر منه النساء .. والمراهق الذى أمامى مباشرة ، والجالس فى نفس الطرقة ، يثرثر بصوت عال ، ويأتى بحركات منفرة .. ولهذا استبعدته مع أنه أقرب الناس إليها من بعدى ..

وبالنظام والدقة والحرص .. وبكل ما اعتدته فى حياتى ، أخذت أملأ عينى من ملامـح وجهها وأقيس طولها وعرضها وأعرف لون فستانها ، حتى لاتضيع منى فى زحمة الركاب .. وأعطى الحقيبة واللفة لغيرها ..

ولما تحققت تماما من قوامها ، وهندامها ، ولون عينيها ، وتسريحة شـعرها ، تركتهـا تستريح فى وقفتها فى المكان الملائم لها .. بعد أن كان الركاب يدفعونها بقسوة ومعها الكثيرات من النساء .. من يمين وشمال .. ثم العكس ويحدث ذلك كل ثلاث دقائق ، بترتيب ونظام كأنه مرسوم فى جدول ..

وقد يدور سؤال جوهرى فى هذه الحالة .. لماذا لم أقف لها وأتخلى عن مكانى ..؟ والموقف الإنسانى والرجولى يتطلبان ذلك ..

والجواب يأتى سريعا .. ولماذا أقف لها وحدها .. وهناك خمس نسوة ، واقفات فى الطرقة ، مجاورات لى ، مضغوطات فى ذلك المكان الضيق ، ومنهن من لطعت نفسها بجانب النافذة ، ومن كانت أكبر من صاحبتى سنا .. والوضع الصحيح يقتضى اراحة المسنة أولا ..

ولهذا كان التفضيل سيسبب المشاكل والحرج .. فقد آثرت البقاء كما أنا .. كنت فى أشد حالات التعب ، والضيق النفسى من رائحة السجائر ، ومن وقدة الحر فى الليل الصيفى الرهيب .. ومن الزحام الخانق ..

وبعد أن غادر " المترو " محطة الدمرداش .. شعرنا بانقطاع النور عن المنطقة كلها . خيم ظلام دامس .. ولكن المترو ظل يسير بطيئا .. فحمدنا الله على ذلك ..

وبحاستى السادسة وبسرعة ، بحثت عنها بعينى .. فوجدتها واقفة هناك ونصفها العلوى تحت باصرتى ..

وفجـأة ودون أية مقدمات شممت رائحة الدخان ، وسمعت الصراخ .. جاء الاثنان معا .. وأدركت بعد ثلاثين ثانية من التنبه التام ، أن العربة التى نركبها تحترق .. وكانت الثانية من القطار ..

وفى لحظـات انقطـع التيار عن المترو .. وخيم ظلام يضل فيه البصر .. فلم يكن هناك نجم فى السماء ، ولانور فى الأرض ..

وخـرج الدخان واللهب من بطن العربة .. والصراخ من أفواه الركاب ..
وفى دقيقة واحدة فرغت العربات كلها من القطار ..

وخرج الركاب إلى الحصى والرمال والحلفاء والهيش على جانبى الطريق ..

وعنـدى بلادة فطرية لمثـل هذه الحوادث المفاجئة .. فأنا لا أروع منها .. وانما ألاقيها بأعصاب باردة .. ولهذا كنت آخر من نهض وغادر العربة .. ولم يكن ذلك عن استهتار ، ولااستهانة بالأمر .. ولكن كنت قد جربت بأن مثل هذه النيران المشتعلة ، تخمـد بمجرد فصل التيار ، واهالة التراب .. ولكن العربة فى هذه الليلة اشتعلت كلها ، ولم ينفع التراب ولا انقطاع التيار ..

وفى لحظات تنبه حسى وأنا على الأرض ، بين الحصى والرمال والهيش ، بأنى أحمل لفة وحقيبة لسيدة ، كانت منذ دقائق معى فى نفس العربة ..

وحدقت فى الوجوه التى كانت تتحرك على الشريط إلى محطة الجامعة .. لأنها كانت أقرب محطة .. وكان شريط المترو .. هو الطريق الوحيد الصالح للسير ..

وأخذت أتفرس فى كل وجه .. ثم بدأت أهرول ، رغم وعورة الطريق لأبلغ أول راكب .. ثم أرجع لأرد البصر وأحدق فى الظلام ..

وكانت كل هذه المحاولات عبثا .. وقد تصورنى بعض الركاب فقدت صغيرة لى .. ونظروا إلىَّ باشفاق .. لأنى كنت أحدق بجنون فى وجه ظلمة كئيبة لاتستريح إليها عين ولاقلب ..

وفقدت هدوئى بعد أن تسرب إلىَّ اليأس فى محطة الجامعة .. وكان فيها نفر قليل .. أما الباقون فقد تفرقوا فى كل الدروب ، ومنهم من نزل فى الظلام ليأخذ الأتوبيس القادم من نفق العباسية ..

وتبادر إلى ذهنى أن أقترب من كل سيدة كانت فى المترو .. وأسألها أن كانت تعرف السيدة التى تركت حقيبة يدها معى .. ثم استحمقت هـذا السؤال .. فماذا يكون موقفى لو قالت لى واحدة منهن أنها تعرفها ..؟ الوضع فى هذه الحالة ، يقتضى أن أسلمها الحقيبة دون مناقشة .. وهل فى هذا الدقة الواجبة والحفاظ على الأمانة ..؟

وشعرت وأنا أبارح المحطة بغمة قبضت قلبى وعصرته ، لأنى باستسلامى المطلق ، وقبولى الحقيبة واللفة من يد هذه السيدة المجهولة ، قد سببت لها الازعاج والقلق ، وقد يجعلها الحادث الشؤم الذى وقع تفكر فى أنى هربت بالحقيبة وما معها .. فيا لسوء الطالع ..

***

وفى محطة السيارات أمام جامعة عين شمس .. مر أتوبيس 500 ومر آخر ، ومع أن الزمن بين الواحد والآخر قد يزيد على الأربعين دقيقة ، ولكنى لم أركب على أمل أن تأتى مثلى إلى المحطة ..
وبلغت البيت والظلام لايزال يخيم ..

ولما دخلت من الباب ، كانت والدتى جالسة فى الصالة وقد أضاءت شمعة ..

ولكن لم أجلـس معهـا وأنا داخـل كعـادتى ، بل اتجهت إلى غرفتى توا ..
ولكنها استوقفتنى ..
ـ لماذا تأخرت يا حسن .. يا ابنى ..؟
ـ الظلام .. والمواصلات .. يا أمى ..

ودخلت غرفتى دون أن أسمع باقى أسئلتها .. ووضعت الحقيبة واللفة فى دولابى بسرعة وأغلقت الباب .. وعدت إلى والدتى ..
فسألتنى :
ـ ما الذى كان معك ..؟
ـ شغل من المكتب ..
ـ رأيت حاجة سوداء ..!
ـ دوسيه .. يا أمى .. دوسيه .. دوسيه ..
ـ ومالك مكشر .. وشايل الدنيا على كتفك ..

وشعرت بالضيق الشديد والأسف لأنى لأول مرة أخاطب والدتى بغلظة ..
وقلت بهدوء :
ـ سآخذ دشا .. وزكية تحضر لى العشاء ..
ـ المية مقطوعة ! وزكية روحت .. أقوم أنا أحضر لك لقمة ..
وأضافت وهى تنهض :
ـ فيه ميه فى البانيو .. أغسل وجهك وتوضأ ..
وزاد هذا من غمى ..
***

وأكلت ، وجلست أتحدث مع والدتى ..
وجاء النور مع الطعام .. فشعرت ببعض الراحة ..

ولما نهضت لأنام فى غرفتى .. كان أول شىء فعلته بعد أن أغلقت الباب هو أن أفتح الحقيبة لعلى أهتدى إلى اسمها وعنوانها .. ثم أرى ما فى اللفة ..

وبدأت باللفة وكان فيها بلوزة صيفية على مقاسها بلون سنجابى جميل ، وقد تصورتها على صدرها .. وشعرت بهزة ..

وأسرعت إلى الحقيبة ففتحتها وأخذت أقلب فيها .. بدقة .. كان فيها أدوات الزينة التى تحتاجها السيدات .. أدوات كاملة أنيقة .. ثم كيس جلدى أنيق أيضا وبداخله سبعة جنيهات وستة عشر قرشا .. ثم رواية " الحلم " لزولا فى طبعة صغيرة جميلة وبداخل الكتاب ظرف أزرق مغلق .. ولم يكتب عليه اسم ولاعنوان .. ولا شىء آخر ..

ووقفت عند هذا الظرف .. فان بداخله رسالة .. رسالة على ورق خفيف ناعم .. رسالة وليس نقودا .. رسالة فلمن كتبتها ..؟ ولمـاذا أبقت الظرف من غير عنوان ولماذا أغلقته ..؟ هل كانت فى عجلة ..؟ هل ترددت بعد كتابة الرسالة ..؟ ولهذا لم تكتب العنوان على الظرف .. أم أن الفرصة لم تساعدها بعد كتابة الرسالة .. فوضعتها سريعا فى الظرف وتركت العنوان لتكتبه فى مكان آمن بعيدا عن كل العيون .. كطبيعة المرأة ..
فكرت فى هذا كله ..

وساءنى أنى لم أعثر فى داخل الحقيبة على بطاقة تدل على عنوانها ، لم أعثر اطلاقا على شىء يدل عليه ..

وشعرت بحسرة ، وطويت الحقيبة واللفة ، ووضعتهما فى مكانهمــا من الدولاب ..

وأغلقت النـور ونمت وأنا أفكر فى هذه السيدة وأتمثلها بكل شكلها ، بكل جمالها وشبابها ورشاقة قوامهـا .. وكانت ثقتهـا فى مطلقة .. فيا للحظ التعس ..

***

فى اليوم التالى حرصت على أن أركب المترو فى نفس الميعاد علها تهتدى بغريزتها إلى ذلك .. فنلتقى فى نفس المحطة .. ولكن مر أسبوع ، وشهر كامل ، دون نتيجة ..

وفكرت فى نشر سطرين فى الصحف .. ولكن النشر قد يسىء إليها ، وربمـا كانت متزوجة ، وكتمت خبر فقد الحقيبة كلية عن زوجها .. بسبب الظرف الذى تحويه الحقيبة ، وما فيه من أسرار ..

وقد لاتكون هناك أسرار .. ولكن ما جدوى النشر واحتمال وقوعها على الصحيفة بنسبة واحد فى المليون ..

وسواء أكان فى داخل الظرف سرها أم لم يكن .. ولكن فيه ما جعلنى أحرص على أن أقدم لها الحقيبة بنفسى ..

ولا أدرى سبب اليقين الراسخ الذى جعلنى أعتقد بأننى سألتقى بها مهما طال الزمن ..
ولهذا اليقين كنت أتحرك ..

وشعرت فى الشهر التالى بلذة خفية ، وسيطرت هذه السيدة على حواسى كلها .. كأننى لم ألتق بأنثى قبلها فى حياتى ..

فكنت أتصورها فى يقظتى وأحلامى .. وأحدق فى كل من ترتدى بلوزة قرنفلية .. كأنه لايوجد فى النساء سواها يرتدى هذه .. أو كأنها ستظل ترتديها فى الصيف والشتاء ، والصباح والمساء .. وكانت نظرة ناعسه فى عينيها .. نظرة مسترخية وهى تعطينى الحقيبة جعلتنى أتذكرها بوضوح .. وأميزها عن نظرة غيرها من النساء .. ولذلك فإن الاهتداء إليها كان فى نظرى سهلا .. حتى ولو وقفت وسط جمع من النساء وكن فى مثل سنها وشكلها ..

وكنت أستخرجها أول ما يقع بصرى على عينيها .. يالله.. من يغفل عن هاتين العينين ..

***

فى صباح الجمعة كنت أدخل المحلات التجارية بمصر الجديدة .. عمر أفندى .. اركو .. لعلى أهتدى إليها ..

ثم قلت لنفسى ومن يدرينى أنها من سكان مصر الجديدة ، ربما كانت من سكان منشية البكرى .. أو كانت ضيفة على القاهرة .. ونازلة عند قريب لها من سكان هذا الخط وسافرت ..
كل هذه الخواطر دارت برأسى ..
ثم حدث ما جعلنى أصل إلى حالة يأس مطلق ..

ورأيت أن أتصدق بالمبلـغ الذى وجـدته فى الحقيبة على إنسان
أعرفه .. أما البلوزة والحقيبة نفسها فستبقيان عندى كذكرى لحادث جميل وقع فى حياتى ..

واخترت الشيخ " شعبان " لأعطيه المبلغ ، ولكن بطريقة لاتؤذى شعوره .. وكان يصلى العصر دائما فى مسجد الحسين ، ويبقى هناك فى صحن المسجد إلى صلاة المغرب ..
وفى هذه الفترة من السهل الالتقاء به ..

وذهبت إلى المسجد فى صلاة العصر فلم أجده .. فجلست بجانب عمود فى الصحن أترقب الباب لعله يدخل كعادته ..

وكان هواء العصارى لينا فى داخل المسجد .. فغفوت نصف اغفاءة .. وحلمت بالسيدة تزور الضريح مع النساء بعد الصلاة ..

ففتحت عينى وأنا أقول هذا ليس بحلم .. انها فى الداخل قطعا .. وأسرعت إلى الضريح .. فوجدته ممتلئا بالنساء وحدهن .. وخجلت من الدخول .. وتراجعت إلى مكانى من الصحن ..

ولما يئست من وصول الشيخ " شعبان " اتخذت سبيلى إلى الخارج وأنا أفكر فى زيارته فى يوم آخر ..

وكان الجو فى داخل المسجد غيره فى الخارج .. كانت حرارة يوليو لافحة فى الخارج .. فملت إلى موقف الأتوبيس لأروح ..

وانتظرت 190 لينقلنى إلى الاسعاف ، ومن هناك آخذ المترو ..
وجاءت سيارة وكانت مزدحمة .. وخلفها أخرى فركبت الثانية .. وكان فيها مقـاعد .. واندفعت كغيرى لأجلس ، وجلست بجوار سيدة ..

وكانت هى وتبادلنا النظرات .. وأحسست بقلبى كالمطرقة .. ولكنى كدت أرقص من الفرح وأقبل كل ركاب الأتوبيس ..
وقلت بصوت الحالم :
ـ لقد بحثت عنك فى كل مكان .. لمدة عام ..
ـ وأنا ..
ـ وأخيرا التقينا ..
ـ وأخيرا ..
ـ الأرض كروية .. حقا ..!
ـ هل كنت تشك فى هذا ..؟
ـ فى الواقع كنت أشك ..!
وضحكت بعزوبة

وسألتها وأنا أحدق .. لم تكن بلوزنها قرنفلية فى هذه المرة .. بل كانت بيضاء بفتحة فى العنق أرتنى جيدها كله ..

سألتها بفرحة :
ـ هل كنت فى داخل المسجد ..؟
ـ أجل .. ذهبت لأقرأ فيك الفاتحة ..!

وعـادت العينان الناعستان تضحكان .. فأغمضت عينى عن هذه الفتنة ..
واستطردت توضح سبب الزيارة لضريح الحسين ..
ـ ابنى نجح فى الابتدائية .. فجئت لأوفى بالنذر ..
ـ مبروك ..

وكلمة ابنى أصابتنى بلدغ العقرب .. فتجهمت .. يا للحماقة .. هل كنت أتصور أنها غير متزوجة وخالية لى وحدى .. يا للحماقة .. وما علاقتها بى .. وخجلت من جهامتى ..
وسألتها :
ـ هل عرفتنى وأنا أجلس بجوارك ..؟
ـ أجل .. وبسرعة شكلك غير مكرر ..
ـ هل ذاهبة الآن إلى البيت ..؟
ـ نعم .. وسأنزل فى الاسعاف لآخذ المترو ..
ـ سـأرافقك لأعرف العنوان .. وأجىء لك بالحقيبة والبلوزة الليلة ..
ـ العنوان كان بالحقيبة ..
ـ كيف ..؟ لقد بحثت جيدا فلم أجد شيئا ..
ـ انه فى الظرف .. فى داخل الظرف اسمى وعنوانى ..
ـ ولكنى لم أفتح الظرف .. وكيف أفتحه وهو لايخصنى ..؟
ـ عرفت هذا .. وتيقنت منه ..
ـ والآن خذى نقودك .. وقد حملتها معى لأتصدق بها ..

وحكيت لها قصة الشيخ " شعبان " فضحكت بحرارة وهى تتناول نقودها ..
وقلت :
ـ سأرافقك لأعرف البيت وأجىء بالباقى الليلة ..
ـ لاداعى للتعب .. نستطيع أن نلتقى غدا صباحا فى نهاية المترو .. أو المكان الذى تختاره ..
ـ هل عملك قريب من التحرير ..؟
ـ فى ميدان التحرير نفسه ..!
ـ فى المجمع إذن ..!
ـ فلم ترد .. وابتسمت برقة ..

فقلت لأبعد عنها الحرج ..
ـ إذن سنلتقى فى الساعة الثامنة إلا ربعا فى نهاية المترو .. وإذا حصلت أية ظروف طارئة ، فها هو اسمى وعنوانى لكى لانتوه عن بعض مرة أخرى ..

وتناولت الورقة .. وقالت :
ـ حاضر .. يا أستاذ " حسن " وسأكون هناك قبل ذلك ..
ـ وسننزل من الأتوبيس .. ونركب مترو عبد العزيز فهمى معا ..
ـ سنركب معا .. ولكن إذا جلست بجانبى لاتحدثنى ..!!
ـ حاضر .. يا ستى .. حاضر ..
يا للدنيا العجيبة ..
وقلت وأنا استرجع فى رأسى ما جرى فى تلك الليلة :
ـ ان ما آلمنى وترك جذوره فى نفسى ، هو أن تكونى وحدك فى تلك الليلة ، ويجعلنى سوء الحظ لاأهتدى إليك .. فأتركك للظلام ووحشة الطريق ..
ـ لقد روعت .. وبكيت كثيرا ..
وتفطر قلبى لما جرى لها .. وسألتها :
ـ هل اتجهت فى تلك الليلة إلى محطة الجامعة ..؟
ـ لا .. رجعت إلى الدمرداش .. ووقفت مع الناس فى محطة السكة الحديد ..
ـ هذا أحسن ..

وكنا نتحدث كأننا متعارفان من سنين طويلة ، وعجبت لذلك .. والواقع أن العام الذى مر علينا ، منذ أول لقاء ، بكل صوره وأحلامه ، نسج حولنا نسيجا قويا ، وجعل الرباط طبيعيا وفيه الفه صادقة ولهذا لم يطل عجبى ..

وركبنـا مترو عبد العزيز فهمى .. وجلسنا متجاورين .. ولكن لم
نتحدث .. كما شاءت لها طبيعتها ..

***

وجـاءت إلى نهاية المترو .. فى اليوم التـالى .. وكانت فى أجمل ثيابها .. وأجمل من كل سيدة رأيتها فى حياتى .. وكان الصباح أجمل من كل صباح مشرق ..

وأعطيتها الحقيبة والبـلوزة .. وعيناهـا تشرقان بالدمع .. وسلمت .. ومشت ..

ورأيتها تتخذ طريق النيل .. وبعد خطوات قليلة أخرجت الظرف ومزقته .. وألقت بقصاصاته فى دوامات الماء ..






====================================
نشرت القصة بمجلة الثقافة ـ العدد 65 فى فبراير 1979 ـ وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى ..... و "قصص من القاهرة " ـ مكتبة مصر
====================================

ليست هناك تعليقات: