الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 16 المأخوذ ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

المـأخـــوذ
قصة محمود البدوى

ممدوح .. وأمين .. قضيـا سنـين الدراسـة معـا .. كأحسـن الأصدقاء .. وتوظفا بعد تخرجهما فى سنة واحدة .. ممدوح فى شركة صناعية .. وأمين فى مصلحة من المصالح ..

ثم جاء وقت رأى فيه " ممدوح " أن يسافر إلى الخارج .. ليوسع من دائرة رزقه .. ويؤمن حياته المعيشية ومستقبله ..

وأفضى لصديقه أمين بذلك .. وحزن أمين لاعتزام زميله السفر وتألم لفراقه .. ولكنه رأى ألا يمنعه من أمر يعود عليه بالخير .. وألا يكون عقبة فى سبيل طموحه ..

وأخذ يرافق " ممدوح " فى جولاته الأخيرة وهو يعد العدة للسفر .. فى استخراج الجواز .. وصرف المكافأة من الشركة عن مدة خدمة ممدوح التى سبقت الاستقالة ..

وكان هذا المبلغ سيعين ممدوح فى أمور كثيرة تتعلق بالسفر .. وأعد الشيك فعلا ولكن مراقب الحسابات الذى يوقع توقيعا ثانيا على الشيك ويجعله صالحا للصرف .. لم يكن موجودا فى تلك الساعة ..

فقال " ممدوح " لزميله " عزت " موظف الشيكات :
ـ هل تستطيع يا أخى عزت أن تقدم لى خدمة كبيرة ..
ـ نعم .. أطلب ..
ـ تعطى الشيك غدا لأمين .. لأنى سأكون مشغولا فى الصباح باجراءات طويلة فى السفارة ..
ـ حاضر وإن شئت .. لا تتعب أنت ولا أمين .. وأنا أوصله البيت بنفسى ..
ـ لا داعى لتعبك .. وأنت فى زحمة العمل .. وأعطه لأمين ..
ـ حاضر .. من عينى الاثنين ..

وفى صباح اليوم التالى ذهب أمين إلى موظف الشيكات وأخذ الشيك .. ولما أراد أن يوقع بالاستلام على الدفتر المختص .. رفض عزت ..

وقال له :
عيب .. يا أستاذ أمين .. عيب ..

ووضع أمين الشيك فى جيبه وذهب إلى عمله فى المصلحة .. ثم اتجه إلى ممدوح فى بيته بعد خروجه من المصلحة ليعطيه الشيك ولكنه لم يجده فانتظره طويلا .. دون جدوى ..

ورأى أن من الأوفق أن يعود إليه مبكرا فى الصباح التالى ..

***

وفى صباح اليوم التالى وقبل أن يتوجه إلى مقر عمله .. أخذ طريقه إلى منزل صديقه ممدوح فى شارع الشيخ عبد الله بعابدين .. وطلع السلالم الحلزونية فى البيت العالى الطوابق ونقر على باب ممدوح فلم يرد عليه .. فتصور أنه خرج قبل الشمس ليذهب إلى شركة الطيران ليحجز تذكرة السفر أو شغل بشىء آخـر من لوازمه ..

ولقى وهو يهبط السلم جارة لصاحبه يعرفها من كثرة تردده على البيت فسألها عنه ..

فلقيته بوجه حزين صامت ثم سألته :
ـ هو أنت لاتعرف ..؟
ـ أعرف ماذا ..؟
ـ لقد مات صديقك .. أمس فى الليل ..
ـ مات ؟!
ـ نعم مات وأخذه أهله فى الفجر ..
ـ فى الفجر .. ؟
ـ نعم أخذوه ليدفنوه فى بلده .. أخذوه كأنه مريض فى سيارة .. ليتجنبوا الإجراءات المعقدة هنا .. نحو الموتى ..
ـ ومن الذى أعلمهم بموته فى مثل هذه الساعة من الليل ..
ـ جاره الأستاذ توفيق .. وجاءته نزوة القلب وهو معه لأجل الستر .. وبحث عنك الأستاذ توفيق أولا .. فلما لم يجدك ركب عربته وجاء بأهله سريعا .. والبلد قريبة .. وصعقهم الخبر وشل حركتهم .. ولكن الست " نجية " صاحبة البيت قالت لهم بهدوء .. وكانت أول من علم بالخبر وجرت إلى شقته ..

قالت لأكبرهم سنا ..
ـ أسرع يا حاج ولا وقت للدموع الآن .. وشيله من القاهرة الملآنة بزبائنة جهنم .. وأنتم غرباء عنها .. الحانوتى .. والطبيب .. وعربة الموتى .. والكل فى جشع رهيب للمال .. فلا يقدرون الظروف .. وبلدكم قريبة جدا نصف ساعة بالسيارة ..

ولما رأته جامد الملامح وفى سهوم .. قالت له :
ـ العربة جاهزة .. وابنى " طلعت " سيسوق .. ومعكم أيضا الأستاذ توفيق بعربته ..

وصعقت " أمين " المفاجأة .. وتأسى لصديقه واغرورقت عيناه بالدمع .. ولكن ماذا يجدى الأسى .. وتذكر الشيك الذى فى جيبه وكان قد نسيه فى دوامة ما سمعه .. وسريعا أحس بالضباب يغشى عقله ويطمسه .. وبالحيرة والتردد فلم يكن يدرى كيف يمضى .. ان أحسن سبيل هو أن يعيد الشيك إلى الشركة .. وهى صاحبة التصرف فى الموضوع .. والموظف هو موظفها .. والشيك صادر منها حتى مع انقطاع صلتها به باستقالته ..

ولكن الشيك أعطاه له الموظف بصفة ودية دون استلام وتسليم لأنه يثق فيه .. ويعرف مقدار ما بينه وبين ممدوح من صداقة .. فهل يوقع الموظف فى سين وجيم ..

عدل عن هذا الرأى كلية .. ورأى أن يتصرف بسرعة التصرف الطبيعى وهو أن يصرف الشيك ..

وظهره فعلا .. ووقف أمام شباك الصرف فى البنك .. وكان الطابور طويلا فى اليوم التالى من الشهر .. وسر من الزحام لأن الموظف لن يجد عنده الوقت للتعقيد ..

ولما جاء دوره القى الموظف نظرة سريعة على الشيك وقال له :
ـ اكتب العنوان ..
ـ مكتوب ..
ـ اكتبه ثانى ..
ـ حاضر ..

وتمالك نفسه وحد من ارتعاش يده .. وكتب .. وأخذ الثلاثة آلاف جنيه .. وظل فى صالة البنك يعدها ويعدها بتؤدة .. وكان قد قرأ خبرا عن لص من لصوص البنوك صرف شيكا بالتزوير .. ولما استلم المبلغ وكان كبيرا جدا .. أخذ يعده فى صالة البنك الواسعة بثبات وهدوء أعصاب .. ثلاث مرات .. فأراد هو أن يفعل مثله تماما ..

فراح وجاء فى بهو البنك بعد أن عد المبلغ ثلاث مرات .. وأخذته لسعة برد فى الشارع .. ولكنها سرته لأنها هدأت من توتر أعصابه .. ومن سح عرقه ..

وكانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف والشمس وراء الغمام ، والشوارع تعج بالمارة ، وبعض المتسولين والباعة الجوالة يتسقطون الهابطين من البنوك ..

ورأى أمين أن يذهب إلى عمله ويشغل نفسه به ..

وسأل الفراش :
ـ أسأل أحد ..؟
ـ أبدا .. والبيه المدير لم يأت بعد ..
وشغل بعمله اليومى حتى الساعة الثالثة بعد الظهر ، ثم أخذ يفكر فى مكان يضع فيه النقود .. وأخيرا استقر رأيه على أن يضعها فى بيته ..

وتغدى كما اتفق وذهب إلى بيته ونام إلى ما بعد العشاء وكان يتصور أن النوم سيريحه ، ولكنه بعد أن نهض من الفراش وجد القلق ينهش رأسه ..

وخرج ثم عاد وفى ذهنه تفكير حاسم بأن يذهب إلى بلدة صاحبه ويسلم أهله المبلغ ..

***

ولكن فى الصباح وجد سخف هذه الفكرة فى عالم الواقع ، فهو لايعرف أحدا من أهله ، وما حدثه ممدوح عن اسم واحد منهم قط ، ولو وجد أهله فعلا فإنهم كعادة الكثير من أهل الريف سيتصورون أنه حجز لنفسه من المبلغ .. والفلاحون لايثقون فى أهل المدن من فرط معاناتهم ، كلما احتكوا بهم فى معاملة ، فالثلاثة آلاف سيتصورونها خمسة وعشرة .. ويقع فى ورطة جديدة ..

وقع صراع هذه الخواطر فى نفسه ، ولكنه فى صباح الجمعة ركب قطار الركاب إلى المزغونة .. ثم ركب عربة أجرة إلى قرية المرحوم التى لاتبعد أكثر من فرسخين عن المحطة .. !

وكانت القرية ببيوتها السوداء ككل القرى المصرية يخيم عليها النخيل ، وتحوطها المزارع ، وتنبح فيها الكلاب ، وطرقاتها متربة والغبار بعد كل دابة تتحرك أو سيارة تمر ، يسد الأنوف ..

وكان الوقت يقترب من صلاة الجمعة وأهلها فى مسجد القرية المتطرف .. فدخل يصلى معهم .. ووجد أن عيونهم مع الخطيب ، ولكن رؤوسهم مشغولة بالزرع والضرع ، وضروب التموين والسماد والجمعية .. وبنك القرية والحساب والصرف ..

كانت صروف الحياة المعيشية تصرفهم عن كل كلام وعظة .. وكان الكلام الرتيب المعاد المكرر مئات المرات لايشد انتباههم ولا يفتح صدورهم وقلوبهم إلى شىء جديد ينفعهم ..

ولهذا لاتنفعهم صلاة .. ولاتفيدهم عظة .. وما فى داخل النفس هو المتسلط ..

وخرج من المسجد ، وركب القطار إلى القاهرة ، دون أن يسأل أحدا ..

خيل إليه أن ممدوح ليس من هذه القرية مع كثرة حديثه عنها فى أيامه الأخيرة ..

***

ولم يشعر بعد الرحلة إلى القرية بالتعب .. وكان من عادته إن يذهب فى يوم الجمعة إلى السينما .. ولكنه تغدى وذهب إلى البيت .. ونام إلى الساعة العاشرة ليلا .. وأراح النوم أعصابه ، ولكنه جعل الرؤية أمامه واضحة .. فقد وضع صديق له ثقته المطلقة فيه ، ولكنه خان هذه الثقة .. وخانها بخسة ، وطوق عنقه بحبل من مسد .. وأمامه الفرصة الآن ليفك هذا الحبل ، ويخلص عنقه ، ولابد أن يعاود السؤال عن أهل المرحوم ، فلا يمكن أن يكون مقطوعا من شجرة ..

ورأى أن أحسن سبيل هو أن يذهب إلى الشركة التى كان يعمل فيها ممدوح ، ومن ملف خدمته يعرف عنه كل ما يريد أن يعرفه ..

***

وقابل وهو فى الطرقة " عزت " موظف الشيكات الذى سلمه الشيك وأحس باضطراب شديد ، ولكنه تمالك نفسه ودخل معه إلى مكتبه ..

وقبل أن يستدير عزت ويجلس إلى مكتبه سأل :
ـ ممدوح سافر ..؟
ـ أجل ..

وسر أمين لأنه لايعرف أنه مات .. ولكن وجه عزت كان ينبىء عن شىء ، كان عليه طابع السخرية ، وظل ضاحكا ، وكل الأسارير تبدو ضاحكة بسخرية ، كأنه يعرف بواطن الأمور .. ويكتمها بدهاء ..
يعرف أن " أمين " كاذب مخاتل ..

وعاد عزت يسأل بهدوء ، وكان قد طلب من الفراش القهوة لضيفه :
ـ أول أمس ..
ـ أجل فى الليل ..
ـ وودعته ..؟
ـ نعم ..
ـ كان سعيد بيه .. يريد أن يودعه .. ولكنه انشغل بانعقاد مجلس الإدارة حتى منتصف الليل .. تصور .. اننا نشتغل كالفعلة .. وغيرنا فى راحة ونائم فى العسل ..
ـ ممدوح كل الناس تحبه ..
ـ هذا صحيح ..
ـ وما الذى عمله فى الشقة ..
ـ أظن أنه أبقاها لنفسه .. وكلف من يدفع له الإيجار .. هذا حسب ظنى .. لم يحدثنى عنها قط ..
ـ لم يحدثك وأنت صديقه الأوحد ..

طابع السخرية ظاهر من لفظة الأوحد هذه ، ولكن أمين بلعها ..

ـ أبدا .. والست صاحبة البيت ست طيبة .. ونادرة الطيبة .. وحتى لو لم يدفع الإيجار .. ستبقيها له .. كانت تعامله كإبن ..
ـ الطيبات للطيبين ..
ـ نعم ..

وجرى الحديث على هذا المنوال .. ولم يستطع أمين أن يوجه لعزت السؤال الذى جاء من أجله .. تغافل الموضوع ، ونهض كأنه جاء من أجل السلام ..

وشيعه موظف الشيكات حتى الباب الخارجى ..

***

وكانت الحركة فى الشارع شديدة .. تستوجب من " أمين " الحذر وإلا صدمته السيارات والعربات الصغيرة والكبيرة .. ولكنه كان ذاهلا وظل فى غير وعيه ..

وظل عقله يفكر فى موظف الشيكات ويحدث نفسه .. أنه الوحيد الذى يعرف أن شيك ممدوح أخذته أنا .. ولكن هل يعرف أننى صرفته .. إلى الآن لايعرف ..

ولكن نظرة السخرية التى على وجهه ، تحدث بأنه يعرف ، وكيف يعرف أن هذا تخريف .. أن المجرم يظل يدور حول نفسه إلى أن يقع فى الفخ ..

هذا هو طابع الجريمة وميزانها .. ولكنه لن يقع فى الفخ .. لن يقع ..

***

ووجد نفسه يدخل مطعما ومشربا صغيرا فى شارع عماد الدين ، اعتاد أن يتغدى فيه معظم أيام الأسبوع .. لأنه نظيف وهادىء .. ويعنى صاحبه بالطعام فيه وتنسيق موائده ..

وكانت تعمل فيه وقت الغداء فتاة واحدة تخدم على كل الموائد .. ويوجد غيرها عاملان فى الداخل للمطبخ ..

وجاءته الفتاة " فتحية " باسمة المحيا ضاحكة القلب وكانت تستأنس بحديثه .. وسألته :
ـ أين صاحبك ..؟
وكان ممدوح يرافقه كثيرا إلى هذا المكان ..

فقال لها وهو يرفع رأسه ويتأمل وقع الكلمة على محياها النضير ..
ـ مات ..
ـ مات .. أعوذ بالله ..
قالتها برجفة ، وقد امتقع وجهها ، كأن الموت لايمكن أن يحدث لشاب مثله ..

واستطرد أمين وفى عينيه الدمع :
ـ أجل مات .. كلمة بسيطة من ثلاثة أحرف ننطقها بكل بساطة .. أنهت حياة شاب .. حياة حافلة لشاب كان يتطلع للمستقبل بنضارة وأمل .. وقلب كله طموح .. ولكنه انطوى هذا كله بخفقة قلب .. سكت إلى الأبد ..

ظل الحزن يرف على وجه الفتاة .. ولم تستطع أن تنطق بكلمة ، وراحت وجاءت تعد له الطعام الذى اعتاد أن يأكله فى النهار ، وقد وجدت فجأة شيئا يسلبها ارادتها فى العمل كما يسلبها التفكير .. وذكرها موت الشاب الخاطف بأبيها .. فقد خطفه الموت كما خطف هذا الشاب ..

وسأل أمين وهو يأكل :
ـ أتأتين فى الليل ..؟
ـ أبدا .. فى الليل ينقلب المطعم إلى خمارة ..

وقال ليخفف عنها الحزن .. ويضحكها :
ـ وهى الآن إيه .. انها خمارة فى الليل والنهار ..

ودافعت بحرارة :
ـ فى النهار يأتى الناس الطيبون للغداء فقط .. أما فى الليل فهى خمارة ..
ـ ولكننى أحب أن أراها فى الليل .. وقد أضاءت كل قناديلها ..
ـ أضىء لك كل القناديل الآن .. ولكن لاتأت فى الليل ..
ـ كما تحبين .. أتعرفين اننى أجىء إلى هنا لأراك ..
ـ أعرف هذا ولا داعى لأن تقول ..
ـ الامتحان قرب ..
ـ بعد شهرين ..
ـ وإن شاء الله بعد النجاح ستوفقين إلى عمل آخر ..
نعم ما دمت معى ..

ومذ رآها منذ سنة ، وهو يفكر فى اخراجها من هذا المكان .. ولعن خالها الذى جاء بها إلى هنا .. لأنه يعرف صاحب المطعم ، واشترط عليه أن تعمل فى النهار فقط .. من الساعة الواحدة ظهرا إلى السادسة ..

ولكنه كان قاصر النظر .. فتحت الاغراء المادى .. الذى يعمل فى النهار سيعمل فى الليل ، وفى هذا الجو الموبوء يمكن أن يموت كل شىء لفتاة مسكينة مثلها ، ولها من جمالها مثل ما للعسل من جذب للذباب ..

والإنسان العاقل يطيش عقله تحت تأثير الخمر .. فما بالك بمن تطيش عقولهم من الشباب دون خمر ..

ومن يصور له عقله أنها مادامت تشتغل فى بار فهى لاترد يد طالب ..

وكان من عادته أن يجزل لها العطاء كبقشيش بعد كل وجبة .. ولكن فى هذه المرة رأى أن يعطيها مبلغا كبيرا ..

ونظرت إليه باستغراب ..
ـ ما هذا كله ..؟
ـ لتشترى لك فستانا .. هدية النجاح ..
ـ لم أنجح بعد ..
ـ ستنجحين ..

وحدقت فيه فرأت القلق فى عينيه لأول مرة .. رغم مظاهر الهدوء التى على ملامحه ..

وظلت الجنيهات فى يدها مفرودة ، وسألها :
ـ هل أجد فى بيتكم غرفة لى ..؟
ـ كل بيتنا لك .. ولكن هل تسكن فى الإمام ..؟
ـ طبعا أسكن ما دمت تسكنين فيه ..
ـ تتكلم بجد ..
ـ طبعا ..
ـ سأكلم ماما ..

وكانت قد حدثته كثيرا عن والدتها هذه .. كما كان من عادتها كلما سألها عن شىء يخصها تقول له :
ـ سأكلم ماما ..

وأحب ماما هذه من كثرة تردد اسمها على لسان ابنتها .. وتصورها جميلة مثل ابنتها ولاتزال شابة ، فالبنت صغيرة وهى أكبر خلفتها ولا تتجاوز العشرين عاما .. والأم فى الأحياء الشعبية تتزوج صغيرة جدا قبل سن الزواج بحيل يدخلونها على المأذون .. فهى ولاشك فى رونق شبابها ..

***

وسألها ذات يوم سؤالا مباشرا صاعقا :
ـ أمك تتزوج ..؟
ـ لماذا لا ..
ـ تتزوجنى ..
ـ لما أسألها ..

وسألها فى اليوم التالى :
ـ سألتيها ..؟
ـ نعم ..
ـ قالت إيه ..؟
ـ قالت لما أشوفه أولا
ـ ومتى سنذهب ..؟
ـ كما تحب .. نخرج من هنا معا .. لأريك البيت ..

***

وفى اليوم التالى سأل عن الأتوبيس الذى تركبه من بيتها إلى المطعم ، وكان يشفق عليها من الزحام ، ومن فظاعة الركاب وسوء تصرفهم .. وهو نفسه ما ركب اتوبيسا قط لافى ليل ولا نهار .. فكيف تركبه هذه المسكينة وسط هذه الطغمة من الوحوش .. فكر فى هذا بألم وحرارة .. ونسى أنها تعمل فى بار .. وخجل لبساطة تفكيره .. ولكنه شعر بأنه يحبها ويجب عليه كرجل أن يحيطها بسياج من المناعة إلى أن يخرجها من هذا البار ، ويجد لها العمل المناسب لدراستها ..

وقالت له مجيبة على سؤاله :
ـ اننى لا أجىء من البيت .. وإنما أجىء من المدرسة ..
ـ أين هى ..؟
ـ فى السيدة ..
ـ هذا جميل .. ومن السيدة لهنا .. تجدين الكثير المختلف من المواصلات ..
ـ أجل ..

ولاحظت أنه تعب .. ويبدو على وجهه الشحوب والارهاق .. وطلب زجاجة من الجعة .. وكانت تود أن تقول له :
ـ الجعة نفدت ..

لأنها لاتود أن يشرب بأية حال وفى كل الظروف .. لأن الجعة ستجر إلى البراندى .. ولكنها رأته ملتاعا ومأخوذا .. فجاءت بالزجاجة ووضعتها أمامه برفق وهى تتطلع إلى وجهه ، وتحاول أن تستشف سبب السرحان ..

وسألته لتوقظه من غفلته :
ـ هل أجىء لك بالغداء .. الآن ..
ـ قطعة من اللحم فقط .. ولا أريد شيئا آخر ..

ولم يكن على الموائد المعدة للطعام سواه .. وكان فى الداخل على منصة البار .. شاب ناحل يرتدى سروالا بنيا وقميصا فاتحا طويل الأكمام .. وكان يشرب " البراندى " بتذوق ويدير عينيه الحمراوين عن يمين وعن شمال .. من حين إلى حين .. ولا يخاطب أحدا .. ولا يخاطبه أحد .. كان صامتا يجتر أحزانه فى سكون .. وكان لايغير مجلسه ولا مكانه ولا عدد الكؤوس التى يشربها ..

وكان طول وجهه يتقلص ويتمدد حسب الأحوال المحيطة .. وتنفر عروق جبهته إذا فاجأه بائع جوال وهو فى استغراقه المطلق مع الكأس .. وهز من كينونة سكونه ..

وعند ئذ ينطلق الشرر من عينيه ويسب ويلعن مع رذاذ فمه :
ـ حرامية .. لصوص .. أوغاد ..

ويأخذ عامل البار فى تهدئته .. ويظل الأسى مرتسما على وجه الفتاة وشيئا أشبه بالخوف مما تتوقع حدوثه .. إلى أن ينسلخ الشارب من كرسيه ، ويأخذ طريقه إلى الخارج ..

وكان هذا المنظر المتكرر يوميا يشغل بال " أمين " ويجعله يفكر سريعا فى ايجاد عمل جديد للفتاة حتى وإن لم تنجح فى الدبلوم .. فكيف تعمل هذه المسكينة فى مثل هذا الجو .. اليوم سكير واحد .. وغدا عشرة .. واليوم بالنهار .. وغدا بالليل مع البلطجية والمتشردين والقوادين وسماسرة الشقق المفروشة ..

وقرر أن يفعل شيئا سريعا .. ولكن الهم كان يثقله ويمنعه من هذا التصرف السريع ..

فما كان يتصوره سهلا وعملا بطوليا وهو يصرف النقود من البنك ويعدها فى الصالة بثبات وتؤدة ثلاث مرات .. قد أصبح الآن خزيا وعارا أبديا يركبه إلى الأبد ..

فثلاثة آلاف جنيه تدخل فى جيب بواب منحرف فى حى من أحياء القاهرة فى مدة قليلة لاتعدو شهرا .. ويكسبها سمسار شقق مفروشة فى أسبوع .. وتاجر شنطة فى جولة واحدة ..

فهل كان هذا المبلغ كان يستحق منه كل هذا التمزق النفسى والخيانة لصديق العمر .. أية بشاعة عندما يوسوس الوسواس الخناس .. وأية نكبة تصيب الإنسان فى مقتل ، دون أن تطلق رصاصة أو يصوب خنجر ..

ثم هذا الموظف الذى أعطاه الشيك والذى ينظر إليه وعلى فمه السخرية ، هل هذا المأفون يعلم كل ما جرى بعد ذلك ، واننى صرفت المبلغ وأخذته لنفسى ..

ولكن كيف يعلم ؟ .. ولماذا هذا التصور .. وهذا الوسواس ، انها مجرد تصورات لأعصاب مريضة ، ونفس مأخوذة ..

هب أن هذا الموظف علم أن ممدوح مات .. فلماذا لايكون قد أخذ الشيك قبل موته وصرفه .. اذن فكون ممدوح مات لايغير من وجه المسألة .. ولا ينفى أنه أخذ مبلغه قبل موته ..

وكونه هو صرف المبلغ بتوقيعه على الشيك .. لاينفى أنه أعطاه لممدوح قبل موته بعد أن صرفه .. لأن ممدوح كان مشغولا إلى درجة كبيرة بالسفر .. وطلب منه صرف المبلغ فصرفه .. وأعطاه له فى نفس اليوم .. فى نفس يوم الصرف .. بل بعد ساعة واحدة ..

واستراح لكل هذه الخواطر اللولبية ..

ولكن شبح عزت موظف الشيكات عاد للظهور بعد اختفاء مؤقت وظل يطارده فى صحوه ونومه ..

وقرر أخيرا أن يتخلص منه .. ولكن كيف .. ؟ بسمه .. لا .. ان السم من عمل النساء .. بطعنه بخنجر .. لا .. إن الطعنة قد لاتميت .. يطلق عليه النار .. نعم فى عتمة الليل وهو طالع إلى بيته ..

ومع أن التفكير كان متسلسلا وسيريحه من شبح يطارده .. ولكنه ضحك فى أعماقه للجريمة الصغيرة التى تجر بكل سهولة وبساطة إلى الجريمة الكبيرة ..

***

فى اليوم الذى اشترى فيه المسدس ووضعه فى جيبه ، ذهب إلى المطعم فى الساعة الخامسة ليشاهد الفتاة قبل خروجها ورواحها ..

وكأنه يودعها لأنه لايعرف مصيره بعد هذه الليلة ..

ولاحظت تغيره وسهومه ، وبريق عينيه ، وانطفاءهما فى دوران ورجرجه متصلة ..

ووضعت أمامه بسرعة كوبا من الماء .. وساءلت نفسها :

ـ هل سكر فى الخارج .. ماذا جرى له ..؟

وقالت ببسمة حلوة لتحول عنه سيل خواطره التى استغرقته :
ـ ماما .. قالت لى .. لماذا لم يأت الأستاذ ..؟
ـ نعم ..
ـ وعاوزاك ..
ـ لكن أنا .. عاوزك انت .. مش ماما ..
ـ وأنا طوع أمرك ..

ولسعته الكلمة .. هل هى سهلة إلى هذا الحد مثلهن .. ثم عاد وقال لنفسه إن الفتاة بريئة ، وتقول هذا بلغة الحوار ..

وأمسك بيدها وشعرت بيده تعرق ..
ونكس رأسه ثم رفعها وقال بهدوء ..
ـ سأعطيك عنوان البيت يا فتحية .. قد أمرض أو أموت مثل ممدوح .. وأنا وحيد مثله .. وإذا مت فكل ما فى بيتى لك ..

فنظرت إليه باكية وساءلت نفسها ما الذى جرى له ليقول هذا كله ..

وكتب شيئا فى ورقة صغيرة وناوله لها .. فأخذتها لتطاوع تفكيره دون أن تنظر فيها ..
وهم بالخروج ..
فقالت له :
ـ لن أتركك تخرج وحدك وأنت على هذه الحالة من التعب .. سنذهب إلى بيتنا ..

ـ لا أستطيع أن أذهب إلى أمك وأنا على هذه الحالة ..
ـ نذهب إلى السينما .. والسينما ستريح أعصابك ..
ـ بشرط ألا يكون الفيلم مصريا .. فإنه سيزيدنى تعاسة وغما ..
وضحكت ، وقالت :
ـ حاضر ..

ودخلا فيلما جميلا ، وشعر لوجودها بقربه بالراحة والاطمئنان .. ولفترة طويلة ذهبت كل الهواجس عن رأسه .. ولم يعد يفكر فى مطاردة عزت ..

***

ولكن فى صباح اليوم التالى طارده عزت نفسه .. فقد لقيه مصادفة فى شارع طلعت حرب .. وكان يهرول فى مشيته .. وعلى فمه طابع السخرية ونفس الضحكة المطلية بالعلقم ..

وقال له :
ـ إلى أين .. تعال أوصلك ..

ولم ينتظر منه الجواب .. وهرول واختلط بالجمهور المتسكع فى الشارع .. وقال أمين وهو يحرق الارم بصوت مسموع :
ـ لولا اختلاطك بالجمهور لقتلتك فى عز الظهر .. والمسدس فى جيبى ..

وتحسس المسدس .. ولم يذهب إلى عمله .. وذهب إلى البيت ونام من غير غطاء ..

***

وفى الليل .. كان يروح ويجىء فى ظلام شارع " الأخشيد " بالروضة يرقب سيارة عزت .. وكمن له فى أحسن مكان اختاره لفعلته .. وكان الشارع ساكنا قليل الضوء .. والجو رطبا من قرب النيل وثقيلا .. والسماء كابية ..

وبعد ترقب وحذر .. جاءت سيارة عزت .. وابتعد أمين عن ضوئها .. وركنها عزت على رصيف الشارع كعادته ونزل .. وأغلق بابها .. وفى استدارته ليدخل بيته أطلق أمين النار .. ولم ير .. ولم يسمع بعد ذلك شيئا .. لأن المسدس كان كاتما للصوت والظلام يزداد بعد كل خطوة كثافة .. وأسرع خطوات معدودة .. ثم سار بتمهل حتى أحس بأنفاس النيل .. ورده هواء الليل البارد إلى صوابه .. وأخرج المسدس من جيبه وألقاة فى الماء بحركة سريعة عفوية ليتخلص من جسم الجريمة ..

وأخذ أول أتوبيس مر أمامه .. ونزل فى ميدان التحرير مع الركاب .. وقد شعر بأنه تحرر من شىء ثقيل ..

***

وفى الصباح الباكر .. جرى إلى بائع الجرائد .. وقرأ الصحف الثلاث .. فلم يجد عن فعلته خبرا .. وقال لنفسه ان الخبر لم يصل إلى الصحف بعد ..

وفى اليوم الثانى قرأ الصحف بنفس الاهتمام .. فلم يجد أثرا لما فعل .. وقرر أن يذهب فى النهار إلى شارع الأخشيد ..

فذهب وطالعه السكون المطلق من الشارع والمنطقة كلها .. وبحث عن أثر فراشة أو صوان فى الأرض مثل الذى يقام للجنائز .. فلم يجد شيئا يدل على ذلك ..

وخطر له أن يسأل البواب عن عزت ولكنه وجد فى سؤاله حماقة ..

وفى الأيام الثلاثة التى تلت الجريمة شعر بالهدوء .. وكان نشطا فى عمله ومرحا مع زملائه .. ولم يشعر بالندم لأنه قتل نفسا بغير ذنب ، وأدرك أن الإنسان فى حقيقته كذاب أشر حقا وفى دمه الشر .. وهو يطويه مرة ويظهره أخرى .. وفكر فيمن ولد عنده عنصر الجريمة من أسرته .. فلم يهتد إلى شىء ظاهر .. فجميعهم من الناس المسالمين الذين لايعتدون على أحد .. بل يعتدى عليهم ، ويعيشون فى استسلام تام للأقدار وصبر عجيب لتصاريف الحياة ..

ولماذا السرقة ..؟ هل أصابته العدوى ..؟ وهو الذى لم يكن فى حاجة لنقود ، ولم يتورط فى ورطة ..

ولماذا الجريمة .. انها مجرد أعصاب مريضة لإنسان فقد الاحساس بقيمة الحياة ونضارتها .. لعوامل نفسية مدمرة فى داخل نفسه تسلطت عليه بشكل رهيب ..

***

فى الساعة الثالثة والنصف تماما .. من بعد ظهر يوم الاثنين .. وفى شارع محمد فريد الزاخر بالمارة .. فى هذه الساعة المتحركة .. وضع " عزت يده على عاتق " أمين " ..

و قال بسرعة وهو يهرول :
ـ مروح .. تعال أوصلك ..
ولم ينتظر جوابه .. وهرول كعادته وغاب فى زحمة الناس ..
وأحس أمين بالدوار .. كانت المفاجأة فوق كل تقديراته وتوقعاته " فعزت " لم يصب ولم يجرح .. ولم يشعر حتى بأن أحدا أطلق عليه النار ..

وسقط أمين فى الشارع ، وأدخله بعض المارة فى أجزاخانة " يونيفرسال " وكانت على بعد خطوة .. ولما أفاق ورجع إلى نفسه .. ذهب إلى المطعم .. ووجد " فتحية " كأنها تنتظره .. وقرأت فى وجهه الموت والرعب فبكت ثم تماسكت ..

وتقلصت معدته .. وذهب وعاد إلى حوض الغسيل أكثر من مرة ..
ونفر العرق بغزارة من جبهته ويديه ..

وقال لها بصوت خافت :
ـ ابحثى لى عمن يرافقنى إلى البيت .. عبده .. أو أى أحد ..
ـ سأرافقك أنا ..
ـ اتعبك .. وأنت فى ساعة عمل ..
ـ محال أن أتركك وأنت على هذه الحالة ..

***

وفى شارع حسن الأكبر .. دخلا شقة صغيرة فى الطابق الثالث ..

وشعرت " فتحية " بالراحة بعد أن احتوتها الشقة وكانت تخشى من سقوطه منها فى الطريق ..

وقال لها بعد أن استراح على الكنبة :
ـ هذه الشقة دلنى عليها ممدوح .. وكان بها سيدة فرنسية تعطى دروسا فى الفرنسية للطلاب .. وغادرت البلاد ..
ـ ودفعت فيها خلوا ..؟
ـ يا ستى .. لقد سكنت فيها قبل أن يظهر الخلو فى سماء المساكن ..! تعجبك ..؟
ـ جدا .. وأنت ..؟
ـ هى لك أنت وأمك .. أنا ذاهب ذاهب ..
ـ إلى أين ..؟
ـ إلى جهنم ..!
وضحكت ..
ـ تضحكين .. اسمعى يا ستى .. من صديقك النبيل الصفات الذى تحبينه .. وتركت عملك الساعة من أجله ..

ممدوح هذا الذى دلنى على هذه الشقة .. كان صديق العمر .. ولقد سرقته ..
ـ سرقته ..؟
ـ نعم فى لحظة هوس سرقته ..

وأخذ يروى لها القصة من أولها .. إلى أن وضع عزت يده على عاتقه اليوم ..
وبكى بحرقة ..
وطوقت رأسه بذراعيها .. ثم احتضنته بحنان ..

وقالت بهدوء :
ـ ان خير سبيل لتعود إلى نفسك هو رد المبلغ لأصحابه ..
ـ لا أعرفهم ..
ـ تعرفهم ما دمت تعرف بلدة " ممدوح " والمسألة بسيطة ..
ـ ولكنى صرفت منه الكثير ..
ـ كم ..؟
ـ أكثر من ثلاثمائة وخمسين جنيها .. والمسدس بثلاثمائة وحده ..
ـ يعنى لم تصرف إلا ثمن المسدس تقريبا .. رده لمن اشتريته منه ..
ـ القيته فى النيل ..
ـ هذا خير أراده الله .. يمنع عنك التفكير فى الشر مرة أخرى وثمنه غرامة لك .. تحس بوجودها فى نفسك ..

واستطردت لتسرى عنه :
ـ ولكن مثلك يجب أن يشترك فى بطولة الرماية .. وهى على ما أذكر فى الصيف ..!!
ـ أنا معك .. انه هوس وعشاقه .. ولك الحق فى السخرية ..
ـ تشترى المسدس من أفاق .. ثم تضعه فى جيبك .. وتخرج به فى نفس الليلة لتقتل به إنسانا ..
الواقع أنك ستقتل نفسك أولا .. كيف تعيش وأنت الإنسان المتعلم المثقف بعد أن يرتد اليك عقلك .. ويشتغل ضميرك المعطل وتدرك جسامة فعلتك .. تعيش كالميت .. بل الميت أكثر منك راحة .. ويكون مصيرك الجنون المحتم ..
ـ ان عقلك أكبر من سنك .. اعطنى عقلك .. وخذى عقلى ..!

وابتسمت وقالت :
ـ ما زال عقلك فى أتم نضجه .. وقد انشغل ببراعة لتنجو من العقاب فاخترت الظلام .. والسكون .. والمسدس الذى لاصوت له .. ولكن غابت عنك أشياء .. غاب عنك أن هذا المسدس سيكون له صوت يصرخ فى أعماقك دوما ولا تحس به ..
لست مجرما ولم تخلق لتقتل نفسا بل لتحيى أنفسا ..
ـ هل تعلمت كل هذا من خروجك إلى الحياة .. وأنت صغيرة ..
ـ أبدا .. ليس من الشارع .. ولا من الاختلاط بالناس .. بل من والدى وعاش ليرسم لنا الخط المستقيم ويضرب الأمثال .. بعد كل خطوة .. ومات فقيرا وشريفا .. ككل الشرفاء .. والفقر هو الذى علمنى الحكمة وجعلنى أعمل وأنا صغيرة .. وأقرأ كل كتب والدى .. من العاشرة وأنا أقرأ بنهم .. وأتعلم من القراءة والحياة .. وسأظل فى التعليم حتى أكمل جميع مراحله ..
وسر أمين من طموحها وقوة ارادتها ..

وقال أمين وهو يشعر بالضعف :
ـ نسيت حتى أن أقدم لك كوبا من الشاى .. فى هذا البرد ..
ـ لا داعى لتعبك .. وسأخرج وأجىء بالمبلغ الناقص .. من ماما ..
ـ أبدا .. أبدا .. لا آخذ نقودا من نساء ..
ـ انها نقودك .. وهل نسيت كل ما أعطيته لى ..
ـ أنا أعطيتك ..؟
ـ نعم الكثير .. بالمئات .. ولماذا تنسى .. لقد كنت أعمل فى المطعم لأراك .. لأنك تأتى إليه فى معظم الأيام .. وكان يمكننى أن أغيره وأذهب إلى متجر .. أو مصنع .. أو إلى أى عمل آخر .. ولكنى اخترت المطعم بكل ما فيه من تعب ومظهر السوء .. لأضمن وجودك بقربى .. وخشيت أن غيرته أن أفقدك .. من اليوم الثالث لعملى تعلق قلبى بك بجنون ..
ـ أعرف هذا ..
ـ إذا عرفت هذا فكيف تتحول بهذه الصورة السريعة إلى انسان آخر ومختلف تماما .. عن الإنسان الذى أحبه .. لقد ولدت العشرة الطويلة أشياء كثيرة .. والنقود نقودك ..
ـ لا أقبل مليما واحدا .. حتى لو كان منك .. وسأحول مرتبى على البنك وآخذ سلفة ..
ـ وتنتظر اجراءات البنك الطويلة .. لا .. قطعة صغيرة من الذهب تجىء بالألوف .. والذهب الآن فى القمة .. والآن نم وفى الصباح سأكون أول من يوقظك ..

***

وجاءته فى الصباح وكانت فى أتم زينتها ونضارتها .. وأرته قطعة الذهب ..
وقالت له بسرعة كعادتها :
ـ ومتى تسافر .. إلى المزغونة .. سنبيع الذهب اليوم ..
وقبل يدها .. واخضلت عيناه بالدمع .. فأدركت حاله .. وجعلته ينفس عن كربته ..
وقال فى خفوت :
ـ سأذهب إلى عزت أولا .. وسنذهب بعربته فى يوم الجمعة المقبل .. وسنأخذ معنا الأستاذ طلعت .. لأنه يعرف أهل المرحوم .. فهو الذى حمل الجثة بعربته ..
ـ هذا أحسن .. وسنقول لهم أن سبب التأخير فى رد المبلغ هو السفر ..
ـ أنا لا أكذب ..!
ـ لا تكذب وتفكر فى القتل .. ألم أقل لك أنك إنسان طيب .. طاهر .. وانتابتك لحظة هوس .. كنت مأخوذا وأنت مسكين .. وأنا أحبك .. وأنت مأخوذ أكثر وأكثر ..
لأنه لاحول لك ولا قوة ..

وفى صباح الجمعة كانت " فتحية " أول من بكر بالحضور إلى شقة " أمين " ولاحظ أنها ترتدى ثوبا جميلا محتشما .. يتناسب مع من يزور أهل ميت .. وسر لبراعة تفكيرها ونضج عقلها ..

ثم جاء عزت بسيارته وعانقه أمين على الباب وبكت " فتحية " عندما رأت هذا العناق الذى طال وكان فيه كل الاعتراف وكل الغفران ..

أما طلعت فكان هو الذى يقود السيارة .. ويعرف الطريق جيدا ..

وتحركوا فى صمت أولا .. ثم حركت " فتحية " الألسنة الصامتة .. للكلام ..

وفاضوا فى كل الشئون .. وعندما جاء دور الإنسان ومن الذى يحرك سره فى دروب الحياة .. تحدثت " فتحية " باستفاضة عن الخيوط التى تحركنا ولا نراها قط .. وصمت الرجال الثلاثة .. ولكن الخيط كان يتحرك بجاموسة ثقيلة اعترضت طريق السيارة فجأة ..

وفرمل طلعت وقد لامس الجاموسة بخفة .. ولولا براعته الخارقة لقتلها ..

وتجمع الفلاحون من الغيطان كالجراد مع أنه لم يحدث ضرر لإنسان ولا حيوان ..

وسأل عزت :
ـ الجماعة دول .. حيموتونا ولا إيه .. فى عيونهم الشر ..
فرد أمين ضاحكا :
ـ اسكت .. طلعت .. حيتصرف وأنت عمرك ما تموت ..!
وضحكت فتحية ..

وعاد " طلعت " إلى السيارة بعد أن أنهى حديثه مع الفلاحين بلباقة وحسن تصرف ..

***

وعادت السيارة تشق الطريق بنفس السرعة .. وكانت فتحية تسمع صوت الموتور .. وكأنه موج البحر .. وضغطت بكتفها على أمين .. لتوقظه وكان فى شبه غفوة ..

================================
نشرت فى صحيفة مايو بالعددين 42 و 43 بتاريخى 16 و 23 نوفمبر 1981
================================

ليست هناك تعليقات: