الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 3 المعجزة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

المعجزة

قصة محمود البدوى


كانت هند طريحة الفراش منذ تسعة شهور ، استيقظت ذات صباح فوجدت نفسها لاتستطيع أن تنهض من سريرها ، لقد أصيبت بالشلل النصفى على إثر صراع نفسى جبار استمر سنوات وأحزان قاتلة هدت كيانها ..

كانت تعتقد أنها دميمة قبيحة الصورة لاتصلح للرجال ولايحبها إنسان .. وقد رسخ هذا الاعتقاد فى نفسها منذ الطفولة وكبر مع الأيام .. كانت أمها تقول لها وهى صغيرة تلك الكلمة القاتلة " يا وحشة " كانت تسمع منها هذه الكلمة فى اليوم عشرين مرة .. فرسخت الكلمة فى أعماقها واستقرت فى طوايا نفسها ، فنشأت مريضة حزينة منطوية .

ولما كبرت رأت أختيها الصغيرتين تتزوجان قبلها وبقيت هى فى المنزل لايتقدم لها أحد حتى تعدت سن الزواج . وكانت تتصور أن جميع من فى البيت يكرهونها لهذا السبب ، وزادت أحزانها وآلامها .. وانفجر شريان غضبها أخيرا فأصيبت بالشلل ..

وأحضر لها أبوها أبرع الأطباء فى المدينة ، ودخلت كل المصحات وطافت بالأضرحة ، ونذرت لها النذور ، ولكن دون جدوى ..

ولجأت أمها ـ بعد أن تطرق إلى قلبها اليأس ـ إلى الدجالين ، فكانوا يكتبون لها الأحجبة والطلاسم والألغاز .. وأخذت تطلق البخور فى حجرة ابنتها لتطرد الشياطين .. وتنتظر الفرج من ملائكة الرحمة ..

وكانت الفتاة بعد الحادث الذى نزل قد زهدت فى كل شىء .. فى الحياة .. وقد علمتها الشهور الطويلة التى قضتها فى الفراش التأمل .. والقراءة .. فكانت تطلب الكتب وتقرأ .. وتقرأ وتفكر .. وقد خرج بها الألم عن الدائرة الضيقة التى كانت تعيش فيها من قبل ، فأصبحت إنسانية النزعة تتألم لآلام الناس وتشاركهم عواطفهم ..

وكان أبوها يسير أصيل يوم فى أحد شوارع القاهرة ، فلمح لافتة صغيرة تشير إلى طبيب نفسانى .. ومع أنه لم يسمع به من قبل ولم يحدثه أحد عنه ولكنه صعد إليه .. واستقبله الطبيب مرحبا .. فقد كانت العيادة خالية تقريبا من المرضى ، وتحدث الأب عن فتاته المريضة ..

فقال الدكتور وهو يبتسم :
ـ قبل كل شىء سنشرب القهوة لأن جلستنا ستطول..
وشرب القهوة .. وقال الدكتور وهو يفتح دفتر مذكراته :
ـ أنا على استعداد لأن أذهب معك إلى البيت الآن وأرى المريضة ، ولكنى أود قبل هذا أن أعرف كل شىء عنها .. فأسرد علىّ سيرتها من الطفولة إلى الآن ، وحاول أن تتذكر كل شىء فإن ذلك من الأهمية بمكان ..

وتحدث الأب واستمع اليه الطبيب ساعة كاملة ، ثم ركب عربة إلى البيت ، ودخل الطبيب على المريضة واستقبلها بوجهه الضاحك ، وأخذ يوجه اليها بعض الأسئلة ويشيع الطمأنينة فى نفسها ..
واسـتراحت اليــه الفتــاة كثيرا على خلاف من سبقه من الأطباء ..

ثم استأذن وأخذ طريقه إلى الخارج .. وسأله الأب فى لهفة :
ـ أين الروشته يا دكتور ؟
ـ ليس بابنتك أى شىء ..
ألا تصف لها دواء ؟
ـ أنا لاأعالج بالسموم .. وسأعالجها على طريقتى .. وسترى نتيجة ذلك قريبا ..
ـ وستشفى ؟
ـ بإذن الله .. ما فى شك ..

ونظر إليه الرجل بين مصدق ومكذب .. ودفع يده فى جيبه ليخرج المحفظة ويدفع الأتعاب .. فقال له الطبيب وهو يربت على كتفه :
ـ دع هذا الآن .. وسأحضر غدا فى مثل هذه الساعة ..

وفى اليوم التالى جاء الطبيب ومكث مع الفتاة أكثر من ساعة يحادثها فى مختلف الشئون ، ولم يجر ذكر المرض على لسانه قط ، فعجب الأب لهذا الطبيب المعتوه ..

وفى صباح يوم جميل حمل البريد إلى الفتاة رسالة ففضتها وهى تعتقد أنها من احدى صاحباتها ، ولكنها عجبت بعد قراءة سطرين منها إذ وجدتها بخط رجل يبثها غرامه .. ويقول انه جارها ويسكن فى الشارع الذى تقيم فيه .. وأنه رآها أكثر من مرة فى شرفتها ولكنها كانت فى شغل عنه فلم تلتفت اليه مرة واحدة .. وأنه لم يرها منذ شهور فى الشرفة أو فى النافذة فهل هى مسافرة أو مريضة ؟ إنه يود أن يعرف لأنه قلق .. ولأنه معذب ولأنه متيم بها ..

وقرأت الرسالة مرة ومرات وتورد وجهها .. وكانت عندها خادمة تحبها وتثق فيها فطلبت منها أن تضع الرسالة فى خزانة ملابسها ففعلت ..

وبعد يومين جاءتها رسالة ثانية .. فقرأتها فى لهفة .. وكانت أشد عنفا إذ كتبها بدم قلبه .. ثم تدفقت عليها الرسائل بعد ذلك .. وكان الطبيب فى خلال تلك المدة يزورها ، ويلاحظ التغيـــر الذى طرأ على نفسها وجسمها .. فيسر لذلك ..

وحملت إليهـا الخادمة رسالة معطرة من حبيبها المجهول ..

وقال لها فيها إنه عرف رقم تليفون منزلها بعد أن عرف اسم والدها من البواب .. وإنه سيطلبها الليلة فى التليفون الساعة العاشرة مساء ويرجو أن تكون وحدها ..

ومن غروب الشمس كانت آلة التليفون بجوار سريرها ، وفى الساعة العاشرة دق الجرس .. فرفعت السماعة وظلت ممسكة بها برهة وقلبها يخفق خفقان الطائر المذبوح .. ثم قربت السماعة من أذنها وجاءها صوته من وراء الأبعاد .. وأخذ يتحدث .. وكانت هى تستمع فى نشوة وقد عقد الخجل لسانها .. ثم تشجعت وأسمعته صوتها .. ورأته يسر لذلك ويتدفق فى الحديث كالسيل ..

ووضعت السماعة وأحست بشىء جديد يسرى فى كيانها ، وبالدم يتدفق فى عروقها .. ويسرى فى جسمها كله حتى فى نصفها المشلول ، وكان خداها فى حمرة الورد .. وكانت عيناها تلمعان ببريق غريب .. بريق الحياة التى أخذت تدب فى جسمها ..

وظلت تحلم أحلام اليقظة إلى ساعة متأخرة من الليل ..

وأخذ بعد ذلك يحادثها فى التليفون كل يوم .. وكانت تطلب من خادمتها أن تغلق عليها الباب وتظل تتحدث معه ساعة وأكثر .. وكان إذا تصادف وخرج أهلها للتنزه وبقيت وحدها مع خادمتها ودق جرس التليفون كانت تشعر بسعادة غامرة لأنها تستطيع أن تحادثه بحرية ولمدة أطول وأطول .. وكانت قد ألفت صوته واستراحت إليه وازداد تعلقها به .

وذات مرة قال لها :
ـ عاوز أشوفك ..
ـ صحيح ..؟
ـ والنبى ..
ـ فين..؟
ـ فى أى مكان تحبينه ..
ـ لكن أنا مبخرجش ..
ـ أبدا ..؟
ـ أبدا..
ـ طيب ..
ووضعت السماعة وبكت ..

وفى اليوم التالى حادثها وقال لها :
ـ أنا زعلان منك ..
ـ ليه ..؟
ـ مررت تحت البيت فلم أرك ..
ـ والله فيه عذر قوى .. وأنا معذورة ..
ـ بكرة سأمر .. ولازم أشوفك ..
ـ سأحاول ..

ووضعت السماعة .. ولكنها لم تبك بل أحست بشىء يعمل فى داخل نفسها .. وبقوة دافقة تسرى فى كيانها ..

وقبل الموعد بساعات طلبت خادمتها وأخذت تتزين ، والبستها الخادمة أحسن أثوابها .. وقربت منها المرآة .. فأخذت تنظر فى وجهها طويلا .. وتصفف شعرها ، ولاحظت التغيير الذى طرأ عليها ، ورضيت وابتسمت .. وصرفت الخادمة ولما اقترب الموعد خيل اليها أنها تسمع صوته يناديها فتحركت من فوق السرير ووجدت نفسها لأول مرة فى حياتها تحرك رجليها .. وأنزلتهما برفق وقد غمرتها فرحة عارمة ونزلت على الأرض وتماسكت واستمرت واقفة وحلت المعجزة ومشت فى أرض الغرفة نحو الشرفة ..

واستندت على الحاجز ، ورأته هناك فى الجهة المقابلة من الشارع ولوح لها بمنديله الأبيض كإشارة للتعارف كما اتفقا .. وظلت متماسكة تنظر اليه فى سرور ..

ورأت الخادمة سيدتها واقفة فصاحت :
ـ شوفو ستى .. شوفو .. ستى ..

ورأت الأم ابنتها واقفة فى الشرفة .. فجرت نحوها ، وارتمت هند على صدرها وأخذت تبكى .. بكاء الفرح ..

وبعد ذلك بساعة كان الطبيب جالسا فى مكتبه يسجل فى دفتر مذكراته ..

إنتهى العلاج وحدثت المعجزة
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الزمان المصرية 1121952 وأعيد نشرها بمجموعة حدث ذات ليلة 1953 لمحمود البدوى


ليست هناك تعليقات: