الثلاثاء، ٢ يناير ٢٠٠٧

ص 4 الزلزال ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الزلزال
قصة محمود البدوى


سمعت سعاد جرس الباب الخارجى يدق .. ومع أنها كانت جالسة قريبة من الباب .. لكنها لم تنهض إذ كانت تشعر بتراخ وكسل ونادت خادمتها وداد بصوت عال ففتحت هذه باب المطبخ وظهر صوت الوابور .. يغطى كل الأصوات ..

ـ مش سامعة الجرس ..؟
ـ أبدا ياستى ..

ودخلت هدى .. فاستقبلتها سعاد مرحبة .. وقالت هدى وهى تقبل سعاد فى وجنتيها :

ـ الف مبروك ..
ـ مرسى خالص ..

ـ قد إيه فرحت .. لما سمعت من فاطمة هانم .. لازم كده .. منقدرش نستغنى عن الراجل .. مهما كانت الظروف ..

ـ رأيك كده ..؟
ـ طبعا ومن الأول .. قلت لك لازم تجوزى يا سعاد .. حرام .. تضيعى شـبابك .. وجمـالك .. وترفضى عثمان بيـه لأنه كويس قوى ..

ـ آدينى ياستى قبلت ..
ـ وامتى حنفرح ..

ـ لما تفوت سنة على المرحوم .. قربنا ..
ـ نازلة معايا مصر .. أنا رايحه الصالون الأخضر .. حاشوفلى حتتين ..

ـ متأسفة خالص يا هدى .. النهاردة أول يوم فى المدرسة .. ولازم أستنى حلمى لما يرجع ..
ـ إحنا راجعين حالا ..

ـ ما أقدرش .. الصبح وديته المدرسة بنفسى .. وفضلت معاه فى الحوش .. أكتر من ساعة .. وبعد كده وقفت بره السور .. مدة كبيرة .. ولما دخل الفصل عيطت .. ولما جيت هنا قعدت جنب التليفون .. وكل ساعة أضرب للناظرة حاجة تكسف .. ؟
ـ معلهش علشان النهاردة أول يوم يخرج فيه من البيت .. وبعدين تعتادى على كده ..

ـ والعياط .. شىء يكسف .. !؟
ـ عينيك حلوة بالدموع ..

وضحكتا ..

وأخذت الصديقتان تتجاذبان الحديث حتى جاوزت الساعة العاشرة من الصباح فانصرفت هدى ..

وبقيت سعاد وحدها تنظر إلى الساعة وهى رائحة وذاهبة فى البيت وداخلة من حجرة إلى حجرة دون غرض ولأول مرة فى حياتها شعرت بالفراغ .. بالفراغ المعذب .. وبوحدة المرأة الحزينة التى فقدت زوجها .. وهى فى أول شبابها ..

فقد كان ابنها ينسيها هذا وينسيها بألاعيبه وبكائه وجريه فى البيت أنها أرملة وأنها وحيدة وأنها فقدت زوجها .. فقدت الرجل الذى كان يحيطها بذراعيه القويتين وقلبه الحنون .. أحست بالفراغ الكبير وانقبض صدرها وتألم وتحركت فى حجرات البيت ترتب بعض الأشياء الصغيرة .. ثم سمعت جرس الباب الخارجى يدق مرة أخرى .. وتناولت الثلج من البائع ووضعته فى الثلاجة .. ودخلت على خادمتها المطبخ ..

وكانت سعاد تعد من الصباح الباكر لطفلها طعاما شهيا .. وبعض الحلوى .. كانت تود أن تحتفل باليوم الأول لدخوله المدرسة ..

وفرغت من كل شىء وهى لاتزال تشعر بالوحشة وانقباض النفس .. وتحركت إلى التليفون .. وأدارت القرص .. فوجدت نمرة المدرسة مشغولة .. فعاودت الدق .. فسمعت انشغال الخط مرة أخرى .. فجلست مكتئبة على كنبة .. وفى يديها خيوط من الصوف تنسج بها " بلوفر " لابنها .. وأخذت تعمل وكانت يداها تتحركان حركة آلية دون وعى ودون حس .. وبعد قليل ألقت خيوط الصوف وعادت تدق للمدرسة .. وشعرت بالخجل يصعد إلى وجنتيها وهى تحادث الناظرة .. وتسأل عن ميعاد الانصراف للمرة الرابعة .. وقبل الميعاد بساعة ارتدت فستانها الأسود وخرجت مسرعة إلى المدرسة ..

وزاغت عيناها فى مئات الأطفال متناثرين كالزهور فى حوش المدرسة ولكن باصرتها تركزت فى دائرة زرقاء رسمت بها اسم حلمى على صدره ووجدته أخيرا .. فجرت إليه واستقبلته بين ذراعيها ..

وكان الغلام مسرورا بلقاء أمه .. وقد انفرجت أسارير نفسه عندما وجدها على الباب .. وعاد يشعر بعطف الأمومة يغمره ويشيع البهجة فى عالمه الصغير ..

***

وكان عثمان خطيب سعاد يشغل وظيفة رئيسية فى إحدى الشركات بالقاهرة ويعمل فى الشركة فى الصباح والمساء .. ومع ذلك .. ومع أن سعاد تسكن بعيدة عنه فقد كان يزورها فى بيتها يوميا منذ أعلنت خطوبتهما .. فقد بهره جمالها وسحره فتعلق بها وأصبح لايغيب عنها .. وكان يقضى معظم الوقت معها فى البيت لأنها كانت ترفض دعواته إلى السينما أو إلى أى نزهة فى الخارج .. فلا تزال تلبس السواد ولم ينصرم عام على وفاة زوجها .. كما أنها لاتحب أن تخرج وتترك الغلام وحده فى البيت .. وكان عثمان يستاء لرفضها الخروج معه .. ولكنه كان يلتمس لها العذر .. ويضطر إلى ملازمتها فى البيت والسهر معها .. وكان يراها أمامه جميلة رقيقة المشاعر عذبة الحديث .. تجمع كل مفاتن الأنثى .. ولكنه كان يستاء فى أعماقه لأن ظهوره فى جو حياتها لم يدخل السرور على قلبها .. ولم يعد إليها اشراق وجهها .. وكان يراها مشغولة باطعامه .. وراحته والذهاب به إلى الفراش .. وإذا ارتفعت حرارته نصف درجة .. شغلت بتمريضه والعناية به وتستدعى له أكثر من طبيب .. ولكن عثمان كان يحتمل هذا بصبر ويعرف أن الحياة ستغيرها بالتدريج .. وأنها ستصبح له وحده بعد أن يتملكها ..

***

وكان يجلس معها بعد العشاء فى الشرفة ويتمتعان بجو الخريف المنعش وبالهدوء فى هذه المنطقة وبالمنازل الجميلة الحديثة التى حول البيت .. وبالاضاءة الخافتة فى الشارع .. فإذا طلع عليهما القمر وغمرهما بضوئه وسحره تفتحت مشاعره للغزل .. فيناغيها .. ويناجيها ويمسك راحتها البضة بيده الملتهبة .. ويضغط عليها ويمسح على ذراعيها .. فإذا راح فى سكرة الحب .. واقترب منها ليمسح على شفتيها بشفتيه ويبرد النار التى تشتعل فى قلبه .. دفعته عنها برفق وهى تهمس :
ـ حلمى صاحى ..

وكان يتألم لهذا الرفض ويتعذب .. وصرخ من أعماقه وهى تمضى عنه إلى فراش الغلام ..
ـ جته موته ..
ولكنها لم تسمعه ..

***

وكان عثمان يمضى يوم راحته الاسبوعية فى بيت سعاد ويجىء مبكرا ويحاول ملاعبة الغلام ومداعبته .. ولكن عطفه لم يكن طبيعيا .. كان متكلفا .. كان مجاملة للأم .. ولكن سعاد لم تكن قد خبرت بعد طباع خطيبها أو وصلت إلى أعماقه ..

واقترب يوم الزفاف .. تحدد يوم الخميس الأول من الشهر التالى وكان الخطيبان فى فرحة وسعادة متصلة .. وكان عثمان بك يتعشى مع سعاد كل ليلة ويبقى فى بيتها إلى منتصف الليل ..

وذات ليلة تعشى حلمى ونام مبكرا .. وعندما جاء عثمان لم يره كما اعتاد ، وكانت سعاد فى هذه الليلة سعيدة .. وازينت وبدت فى ثوب من الساتان الوردى ، خلعت السواد وبدت كأجمل عروس رأتها العين ..

وكانا يتحدثان فى وفاق ومحبة .. وقررا الانتقال فى أول الشهر إلى شقة جديدة على كورنيش النيل لتكون العش الهنى ..

وبدا كل شىء ممتعا وسارا فى تلك الساعة .. وعندما ضمها إلى صدره ليقبلها لم تمانع أو تعتذر بوجود حلمى .. ولفرط السعادة التى غمرته وهو يعانقها نسى أن حلمى موجود فى البيت أصلا ..
ثم خطر فى ذهنه خاطر ..
لماذا لايدخل حلمى أية مدرسة داخلية ..
قرر أن يعرض عليها هذا الخاطر بعد الزواج ..

***

وجاء عثمان إلى بيت سعاد ذات صباح مبكرا يصحبها إلى السوق لشراء بعض الأشياء اللازمة لهما فى البيت الجديد .. وكان حلمى قد ذهب إلى المدرسة .. وفيما هما جالسان فى الصالة أحسا بهزة عنيفة فذعرا وارتجفا .. وعرفا أنه زلزال ..

وبعد أن مرت الهزة العصبية .. جرت الأم إلى التليفون تتحدث مع المدرسة فوجدت الخط مشغولا .. فظلت تتحرك فى البيت دون وعى وهى شاردة وقد ساورها القلق القاتل .

وبعد قليل سمعت من الجيران أن الزلزال أحدث ذعرا فى بعض المدارس ومات بسبب هذا أطفال .. فابيضت عيناها من الفزع وخرجت بملابس البيت تعدو إلى المدرسة ..

وكان من يراها وهى تجرى فى الشارع يتصور أنها جنت ، فقد كانت تجرى على شريط الترام ولا تحس بالسيارات المسرعة التى تكاد تدهسها .. ومع أنها مذ نزلت من البيت كانت تود أن تركب " تاكسى " .. ولكنها لم تركب ووجدت طاقتها العصبية تدفعها إلى الحركة والعدو .. وهى لاتحس بشىء مما حولها ، وبعد عشر دقائق رجعت إلى نفسها وركبت " تاكسى " إلى المدرسة ..

وبقى عثمان فى البيت لم يخرج وراء سعاد .. وكان يود أن يسأل الناس ليتحقق من أن الزلزال وقع فعلا فى المدرسة التى فيها حلمى بالذات .. وأن البناء انقض على الغلام وحده .. كان يود أن يتأكد من هذا وجعله هذا الخاطر سعيدا ومبتهجا وظهر البشر على وجهه ..

***

ودخلت عليه هدى لما علمت بذهاب سعاد إلى المدرسة .. وقالت له :
ـ كان لازم تروح معاها .. يا عثمان بك ..
ـ علشان إيه .. ؟
ـ وجودك يريح أعصابها ..
ـ دى طارت من غير ماتتكلم ..
ـ طبعا .. أم ..
ـ اضربى للمدرسة علشان نطمئن .. دى غابت .. باين مات ..
ـ حرام عليك .. تقول كده .. وتجيب سيرة الموت على لسانك دول أطفال ..
ـ بصراحـة .. مش حا أستريح أنا وســعاد ما دام الواد دا عايش ..
ـ ليه .. تقول كده ..

وكان وجهه يفيض بشرا للأمنية التى يتمناها فى تلك اللحظة .. ويرجو أن تكون قد تحققت ..
ـ تفتكر ولا قدر الله إن جرى حاجة .. حتتجوزك سعاد ..
ـ طبعا .. وتكون كلها لى ..
ـ لأ .. انت غلطان .. ودا تفكير حيوان مش انسان .. سعاد حتتجوزك علشان تربى الواد .. وتكون أب له .. قبل ما تكون جوز لها .. انت ما تعرفشى سعاد .. تتمنى الموت لابنها فى الساعة المشئومة دى .. حرام ..لازم تنزل حالا وراها .. وتخليها تحس بأنك راجل نبيل .. وانسان ..

وكانت سعاد قد دخلت البيت وبيدها حلمى .. وسمعت الحديث كله .. سمعت كل ما قاله عثمان .. ولكن عندما دخلت عليهما الغرفة لم تظهر ذلك .. كانت فرحتها بعودة ابنها تطغى على كل عواطفها ولم يستطع عثمان أن يخفى انقباضه لنجاة الغلام فاسود وجهه .. ثم فتح فمه دون أن ينطق بحرف .

ودخل حلمى الغرفة واحتضنته هدى .. وقبلته .. وأخذت المرأتان تتحدثان وتقصان ما وقع لهما ..

***

وكان عثمان جالسا فى صمت ووجهه أبيض .. وكانت سعاد تنظر اليه وهو جالس باحتقار شديد ومقت أشد وتود لو تطرده من بيتها ..

وأخذت هدى تضحك وتحاول أن تعيد البهجة إلى الخطيبين .. بكل ما تستطيع المرأة من حيل .. ولكن بعد أن خرجت هدى من البيت عاد الوجوم والصمت .. وتكشفت نفساهما .. وأصبح كل منهما يرى وجه صاحبه خالصا من كل قناع وزيف ..

***

وتحدث عثمان وردت عليه سعاد فى فتور .. ولما نهض ليخرج لم تستبقيه كعادتها للغداء .. بل فتحت له الباب على مصراعيه ..

وعلى بسطة السلم ألقت وراءه بشىء صغير .. سمع رنينه وانحنى والتقطه .. وعندما أدار رأسه إليها .. كانت فى تلك اللحظة قد أغلقت الباب فى وجهه بعنف ..
=================================
نشرت القصة بمجلة الجيل فى 19121955 وأعيد نشرها بمجوعة الأعرج فى الميناء لمحمود البدوى 1958
=================================






ليست هناك تعليقات: